تأويل الثقافات

ثقافة 2024/01/15
...

  ياسين طه حافظ

وأنت تدخل بلداً آخر، تفهم لغته وتتكلم بها، تبقى نسبة من الغربة بينكما. ليست هي غربة مكان وعائلة وطباع ناس. فأنت تفهم ما يقولون لكن بمذاق، ما حمل كلماتك، ما ورثت وما اكتسبت. وهذه ليست تماماً ما يحملونها ويقولون عنها. ما تفهمه وتشعر به ليسا ما يفهمونه ويشعرون به، قريب منه نعم، ولكنه يختلف قليلا أو كثيراً . ليس هناك ما يؤكد التشابه التام بين ما عندك وما عند مقابلك أو «نظيرك» أنت من تاريخ وبيئة وإرث ثقافي وهو من ثلاثة أخرى.

فاستيعابك واستجابتك غير إدراكه واستجابته. هذا إذا تشابهت المفردات فكيف إذا اختلفت؟ هذه الفاصلة بين الاثنين غير محسوسة، لا ظاهرة مرئية ولكنها تؤثر، وقد تتضح، في مضمون الشخصين، في نوع وعمق أو مدى المشاعر، ومن الاصداء النفسية والفهم وردود الفعل. 

ثمة فهم عام مشترك. ولكنه ضبابي، غير آتٍ بتمام الحقيقة. الفهم العام المتكامل لم يتحقق. الناقص، التقريبي، قد يكون هو المتوافر. المتكامل حصة للشخص الثالث الافتراضي والذي هو لا أنت ولا أنا!

خطرت لي هذه الأفكار وأنا أنوي الكلام عن الترجمة، والترجمة الثقافيّة لا الترجمات التجارية أو العسكرية. هاتان تقعان غالباً ضمن الترجمة الفورية، التي تؤكد على الرقم والمعلومة، أو ما نسميه الخبر. وتعتمد على حدّية المضمون لا أيحاءاته.

هنا أردت أن اتجاوز التأويل الأدبي، حيث الحراك على مداليل وأفاق النص وحمولته. فصار لزاماً أن يكون الكلام حصراً عن الترجمة الأدبيّة وهي تعنى أساساً بنقل المضمون الثقافي تراثاً أو إبداعاً أو فكراً نقدياً. أيضا عما هو خارج السرد الفني والشعر، كالسيرة وأدب الرحلات أو ما يسمى بـ أدب السفر. صار الحديث عن الترجمة بحكم الاهتمام بالمضمون وفنه وايحاءاته.

لنتجاوز ما هو شرط أول للترجمة، أو شروط أولى ضمنها الكفاءة في اللغتين، وهو أول ما يرد في الكلام عن الترجمة. لنبقَ مع حقيقة أن الثقافة المتخصصة والثقافة العامة والارث الاجتماعي وراء النص الأصل. والثقافة الخاصة والثقافة الاجتماعية والتراث الحي الفاعل وراء مترجمهِ، فضلاً عن البيئة الحضارية ومستواها هناك مع كاتب النص، وهنا مع مترجمه. قد تبدو المطالبة بتساو صعبة الاستجابة. خلاصة كلامنا وايجازه، أننا نقرأ ما جاءنا من لغة أخرى أي من ثقافة أخرى. وما وصلنا منه هو القدر الذي اسعفنا به تصورنا وفهمنا وذائقتنا وتاريخنا الثقافي نحن في لغتنا. وهو غير التاريخ الثقافي لكاتب النص. ذلك رسمناه بأثر مما رأينا بأبصارنا وفهمنا، بقدراتنا العقلية وسِمَتها ومستوى ونوع تحضّرنا وبايحاءات لغتنا. لذلك دائماً ما تكون نِسَبُ التقارب أو التماثل بين النصين، الأصل والمترجمَ، نسباً متفاوتة. وعلى النطاق الفردي، هذا التفاوت يظل قائماً حتى إذا قرأنا النص بلغته، فكل يستوعب أو يغفل بعضاً مما يقرأ.

بالنسبة للترجمة، وهي موضوعنا الأساس، كل تشابه أو تماثل تام هو تشابه أو تكامل افتراضي. النص المكتوب ليس هو تماماً الذي نقرؤه وليس هو تماماً الذي نترجمه. المترجم قام بتأويل من نوع ما للنص وتأويل النص يؤدي حتماً إلى تأويل الثقافة التي وراءه – أو التي انتجته، لأنه بعضٌ منها. تبقى دائماً مسافة بين أدب هذا المجتمع وأدب ذلك المجتمع: نعم، كلما توطّنا واكتسبنا عمراً في البيئة وثقافتها، تضاءلت العزلة وقصرت المسافة الفاصلة واقتربنا أكثر. قد يكون تماثل هذين مطلباً مثالياً. ولكن علينا الإقرار بما يجب ثم الرضا، كما يقال، بما يتيسر أو باقصى الممكن.

المشكلة التي تستوجب النظر في ايجاد حل لها، هي أننا لا ننقل إلى لغتنا النص المكتوب تماماً. نحن ننقل ما نتصوره، ما نفهمه، ما نلمّ به وما اوحاه لنا. ونسبة ذلك ونوعه يعتمدان على « مُسْتقبِلاتنا». هذا يعني اننا، نحن من يقدر معنى وحدود أو كم المعنى والحس الفني والجمالية التي يتمتع بها النص الأصل. فنحن في الحقيقة نمارس فرضَ نوعٍ من الجمالية كما نوعٍ من التأويل. نحن نؤول جملة، فقرة وفصلاً وحتى يكتمل النص أو الكتاب. خلال هذا وعبره نحن أوّلنا ثقافة الآخر، مجتمعاً، أفهاماً وتصورات. تلك بيئة النص ومكوناته وتلك وراءه، ثقافة كاتبهِ. والتي هي ليست ثقافة المترجم مجتمعاً وافهاماً وتصورات. ونتيجة لذلك فبيئة النص المترجم ليست هي تماماً بيئة النص الذي ترجمناه. وبأيجاز، نحن أوّلنا النص. إذاً، وبالضرورة أولنا الثقافة التي وراءه. أوّلناها بثقافتنا وبطبيعة لغتنا وايحاءاتها. وبهذا المسار التأويلي نحن نؤول شخصيات الرواية ودوافعها ومعاني أقوالها. وكذا القصيدة المترجمة هي مقطوعة مؤولة بثقافة المترجم من ثقافة أخرى.

علينا تقبل حقيقة أن: حتى الآن لم تتحقق عولمهُ الفهم والادراك، والثقافات ما تزال مختلفة ومتفاوتة المستويات. ولم تتهيأ بوتقة  تجمعها على مزاج أو على فهم واحد. الأمل فقط بتقارب مستويات الثقافات ومستويات التحضر الاجتماعي والإنساني. وهذا ما لم يتمّ حتى الآن.

لكن بعضاً من المشتركات، مادية ومعنوية، تزداد حضوراً يوماً بعد يوم، والبشرية سائرة إلى التقارب والفهم المشترك، وربما اللغة المشتركة!