نوال السعدون.. ذاكرةٌ ملوّنة لحزنٍ شرقي

ثقافة 2024/01/16
...

 أحمد عساف

(لآخر مرة في دمشق) هو عنوان معرض الفنانة العراقية نوال السعدون، الذي افتتح مؤخرا في صالة زوايا بالعاصمة دمشق وسط حضور نخبوي لافت.
المعرض الذي كان برعاية وزيرة الثقافة الدكتورة لبانة مشوح ضم نماذج من لوحات الفنانة، خلال مسيرتها من مشروع تخرجها من كلية الفنون الجميلة بجامعة بوخاريست في العام 1980 حتى نهاية العام 2023، على الرغم من أن التركيز الأكبر والأبرز كان على منجز الأعوام الأخيرة في تجربتها الفنية المتميزة.
ولدت نوال السعدون في عام 1957 ببغداد، وتنتمي جغرافيا لواسط جنوب العراق، مدينة الفنان يحيى الواسطي.
تقول السعدون عن عنوان معرضها (آخر مرة في دمشق): لست أنا من اختارت عنوان المعرض، أنها السيدة رولا سليمان صاحبة الصالة هي التي اختارت العنوان، وبالتالي دمشق ذاكرة وهي في القلب وأكيد سأعود إليها مرة أخرى وأخرى، دمشق بالنسبة لي كبغداد وهما ذاكرتي التي أعود إليهما دائما مهما ابتعدت عنهما، فسعادتي لا توصف عندما عدت إلى مرسمي في دمشق القديمة عام 2018 بعد غياب، وهو الذي شهد منذ عام 2002 عدة معارض فردية ونشاطات ثقافية متنوعة: (وليستْ خواتِم أسفارنا إلا بدايات/ أما الأمكنة التي عشقناها فتقطننا كما نقطنها/ نحملها أنى ذهبنا/ وكأننا وإيّاها نتبادل الأوطان).
اقامت السعدون في "محترفها الفني" الذي انشأته منذ العام 2002 في دمشق القديمة العديد من المعارض والملتقيات، كما تسرد كيف أنها في (كل مرة أدخل إلى مشغلي رغبة في جمع اشلاء ما بقيَّ من وجود، من ذاكرة صعبة في حزن شرقها، أطياف ووجوه، أشباح، طقوس للحب، الفن صار كل هذا. محطة الوطن الأخيرة).
أما وزيرة الثقافة الدكتورة لبانة مشوح، فتقول، إن "سوريا تحتضن إبداع الفنانين الذين أحبتهم وأحبوها، وهذا ما يتجسد في معرض الفنانة العراقية نوال السعدون، التي أحبت دمشق وعاشت فيها لسنوات فبادلتها دمشق الحب".
كانت اللوحات المعروضة بمقاييس وأحجام مختلفة، وأن طغت الكبيرة منها على مقاساتها، فإن الصغيرة بالحجم لا تقل أهمية، ولا شأنا، ولا إبداعا عن غيرها.
استخدمت السعدون عبر أعمالها تقنيات عديدة متنوعة ومختلفة من التعبيرية والتجريد إلى ذاك الحس (الغرافيكي) العذب الذي اتحفت به الذائقة البصرية لرواد المعرض أمام بهاء وفخامة خيالها الجامح في عالم الغرافيك الممتع.
وكما قال الشاعر أدونيس عن أعمال السعدون: (رؤيتك الفنية عميقة، والوجه الذي ترسمينه ليس مجرد وجه، إنه فضاء أعماق وأسرار يتعانق فيه البصر والبصيرة الزائل والأبدي).. فإن الحس التعبيري هو الطاغي أو لنقل الميزة الأكثر حضورا في هذا المعرض، وهو اللافت والمؤثر الذي عبره نجحت السعدون في الذهاب إلى أبعد من الحداثة، حيث تفكيك الكتلة اللونية والاشتغال على الفراغ خلال معالجات بصرية شكلت (هارموني) تناغماً مع ألوان تعالقت وتعانقت مع فضاء اللوحة. وفي سرمد ذهابها إلى آفاق تأخذنا إلى مصائر، ربما لسنا من اختارها، وهي التي تقود إلى بوابات مشرعة على كثير من احتمالات مدهشة تحيك بمغازلها ما تتوق إليه الذاكرة من شغف.  
من العناية والشغف والاحترافية والجمالية، التي كوّنت في كثير من اللحظات، مرايا لوجوهنا الغارقة في دهليز عتمتها، وفي ذاك الحنين المشروخ في وجوهنا الجريحة، والذاهبة إلى دياجير أحلامنا، وحنيننا المخذول على أبواب موصده، كما فعلت الفنانة نوال السعدون في بعض "بورتريهاتها" حين وضعتها في زنازين تشبه أقفاص الطيور، وبالتالي نتساءل ما الفرق بين الزنزانة والقفص؟
لقد حفرت السعدون عميقا ذكرياتها على أرواحنا المعلقة على بوابات الحنين عند منتصف سلالم العتمة. وحين نتعمق أكثر في فضاء البورتريه، وبخطوطه الرفيعة والقاسية والعريضة سنجد اللون الأحمر بكل دلالته وأبعاده وإسقاطاته، وتوظيفه المدروس بعناية في فضاء اللوحة. سنقرأ حينها الكثير بصمت وبدموع حبيسة لمآقينا، لما ينتظرنا من زمن قاس، سيتلو علينا أحمره ويمضي.