محنة ثقافيَّة

ثقافة 2024/01/16
...

 تماضر كريم

دائماً كنتُ بالضد تماماً من إطلاق أحكام على جماعات بعينها، لا أطلقها، ولا أتقبل إطلاقها هنا وهناك، أجد نفسي أدافع بضراوة عن هذه الجماعة أو تلك، لأني لا أعتبر السلوك المتكرر لأفراد جماعة ما دليلاً كافياً على وسمهم بصفة نهائية. مدن وقرى، جماعات دينية و لا دينية، جماعات أدبية و مهنية، تجمعات اجتماعية وإنسانية… والسؤال هنا، هل لتلك التجمعات سلوكيات إنسانية متشابهة؟ الفنانون مثلاً، سوّاق التكتك، أصحاب سيارات الأجرة، ، الجنود، رجال الدين، الليبراليون، وهذا يشمل، الجنوب والشمال، ومثله أيضا أدباء خارج البلاد وأدباء الداخل.
وقصدت هنا ليس التشابه في السلوك الذي يتعلق بالاهتمامات والأعمال، إنما السلوك الإنساني المحض الذي يتعلق بالروح الإنسانية الغائرة وما ينعكس عليها من تصرفات مع الآخرين خارج إطار العمل تماماً.
قناعتي تلك بعدم وجود سلوك محدد لجماعة بعينها، تلاشت بدرجة كبيرة عندما لاحظتُ بوضوح تلك السمات النفسية العامة للأدباء العراقيين الذين يعيشون خارج البلاد، في أمريكا أو أوروبا أو بعض البلاد العربية، أو غيرها.
وأنا هنا لست بصدد تحليل سيكولوجي لنفسية الأديب الذي وجد ملاذه في المنافي، فضلاً عن إن هذا الموضوع تم تناوله كثيراً في مناسبات شتى، لكن ما شغلني حقاً هو تلك الفجوة الواضحة بين الجانبين، والريبة التي ينظر بها كتاب الخارج للداخل والعكس.
لكن ما سبب تلك الريبة؟ لاسيما وإن معزوفة الخيانة والعمل لصالح أنظمة سياسية قد اندثرت! لكن الأدب لا يندثر، إنه يتوهج بكل أصنافه، ومن التوهج الأدبي ذاك تولد مشاعر متباينة بين الطرفين كأنها النار تحت الرماد.
إن مواضيع أدباء الخارج على المستوى الفني تتعلق غالبا بكتابة السير الذاتية لهم، فضلا عن مواضيع أخرى تتعلق بماضٍ يخص بدايات أعمارهم في العراق، ومدنهم وأحبابهم، وتلك النصوص لا تخلو من نرجسية واضحة، كأنها مكتوبة بقلب يحن وعقل يشمئز، وهم هنا عالقون بين حاضر ليس له وجود حقيقي في أعمالهم، وبين حياة أصبحت محض ذكرى، لذا هم يعانون من اغترابين، فني وإنساني، ومن الوسائل التي قد تساعدهم في قهر الاغتراب هو النظر إلى أدب الداخل بريبة، وربما حتى التقليل من تجربته، متكئين على أهمية تجربة العيش خارج البلاد والإفادة من زخمها.
ثمة سمة تتعلق بأدباء الخارج أظهرتها بوضوح مواقع التواصل، وهي كثرة انتقادهم للنشاطات الثقافية داخل البلاد ومقارنتها مع مثيلاتها في الخارج، وحتى لو سلمنا بصحة بعض ذاك النقد، لكنه نقد أملاه وضعهم الجغرافي (سكنهم)، ولم تملِه طبيعتهم الإنسانية، كما إن كلّ نقد غير مصحوب بحلول هو نقد يدخل في خانة اللغو، لأنه صادر من أديب وليس من إنسان عادي. على الرغم من إن الأديب ينتقد كثيرا، لكنه عندما يأتي للعراق ينتظر حفاوة غير مسبوقة، فهو كان مغترباً ويُحب الاحتفاء به كما يتم الاحتفاء بالفاتحين، وعلى هذا الأساس يأتي مع بعض كتبه ليحتفل  بها، ثم ليعود مجدداً لمنفاه ليواصل نوباته الهجومية.
الأدباء في الداخل لا يمانعون أن يكونوا في الخارج، ويزاولوا الهوايات نفسها، وهنا تكمن المفارقة، فالموضوع هو نفسي أكثر من كونه مكانيا، يتعلق بمدى فهمنا لأنفسنا، وجوهر ذواتنا الإنسانية، ومعرفة ماذا نريد.