الأميركيون اليابانيون وصراع الماضي المرير
إد كوميندا وليندسي واسون
ترجمة: بهاء سلمان
خلف الأسلاك الشائكة، ضغط الصبي الصغير بسبابته المغطاة بالحبر على بطاقة الخروج ذات اللون الأخضر الغامق؛ وتم التقاط صورة لوجهه الخائف. كان “بول توميتا” في الرابعة من عمره؛ وكان ذلك يوم الرابع من تموز 1943، ذكرى يوم الاستقلال في مينيدوكا، وهو معسكر في صحراء ايداهو الشاسعة، حيث تم احتجاز أكثر من ثلاثة عشر ألف رجل وامرأة وطفل أميركي من أصول يابانية خلال الحرب العالمية الثانية، باعتبارهم يمثلون مخاطر أمنية بسبب قوميتهم الاصلية.
كانت الورقة ذات الحجم الصغير (بحجم المحفظة تقريبا) تعني أن الصبي الخائف الموجود في الصورة يمكن أن يغادر بعد 11 شهرا من العيش في أكواخ ضيّقة مع والده ووالدته وشقيقتيه وجدته.
وبعد ثمانية عقود، صار توميتا رجلا مسنا، وقد عاد مع مهاجري الساحل الغربي الذين يعتقدون أنه يجب تذكّر الفظائع التي غيّرت الحياة. لكن الآن يلوح في الأفق قرار حكومي آخر باعتباره تهديدا جديدا، ألا وهو مشروع إنتاج الطاقة الكهربائية من الرياح، الذي يخشى المهاجرون أن يدمّر التجربة التي يريدون الحفاظ عليها.
وإذا حصلت الموافقة من قبل مكتب إدارة الأراضي، فإن مزرعة “لافا ريدج” للرياح ستضع 400 توربينا على مساحة 306 كيلومترات مربعة، بالقرب من مينيدوكا، حيث يقول الناجون إنهم يشهدون محاولة أخرى لدفن الماضي.
معسكر الصحراء
بعد شهرين من الهجوم الياباني على بيرل هاربر في السابع من كانون الأول 1941، وقع الرئيس الأميركي الراحل فرانكلين روزفلت الأمر التنفيذي رقم 9066؛ لينقل بموجبه نحو 120 ألف شخص من أصل ياباني من منازلهم، ليتم احتجازهم داخل معسكرات، بدعوى أنهم يمثلون تهديدا محتملا للولايات المتحدة الاميركية. وكان الآلاف منهم من كبار السن والمعاقين والأطفال والرضع، وباعت العائلات اليائسة ممتلكاتها وحزمت ما استطاعت، أما الأشخاص الأكثر حظا، فهم من كان لديهم أصدقاء من البيض اعتنوا بالمنازل والمزارع والأعمال التجارية.
في مينيدوكا، اتخذ المحتجزون من أكواخ خشبية مغطاة بورق القماش كمنازل للمعيشة، يواجهون تحتها وطأة حرارة الصيف وبرد الشتاء على مساحة 130 كيلومترا مربعا من الصحراء النائية العالية. وفي أماكن ضيّقة لا تتمتع بقدر كبير من الخصوصية، كان على النساء انتظار حلول الظلام لاستخدام دورة المياه؛ بينما تقاسم ما يصل إلى ثمانية أفراد من العائلة الغرف على أسرّة نقالة بلا فراش.
تحت أبراج الحراسة المسلحة، كان سكان مينيدوكا يعملون في الحقول لزراعة المحاصيل مقابل أجور زهيدة، إلا إنهم أقاموا مجتمعا داخل ما كان أصلا يعد معسكر اعتقال. قام السكان بانشاء الكنائس وزراعة الحدائق؛ وأنشؤوا مدينة من نوع ما تحتوي على متاجر، ومحال لتصليح الساعات والراديو، وعيادة صحية، وصالون حلاقة، وحلبة للتزلج على الجليد، وحوض سباحة، وملعب بيسبول.
أما اليوم، فلم يتبق سوى عدد قليل من الهياكل الأصلية لتلك المباني والحوانيت، تمثل شاهدا للتذكير بفصل من تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، إذ عملت الإدارة الأميركية على محوه قبل إصدار قرار التعويضات، وتحديد المعسكرات كمواقع تاريخية وطنية بعد عقود من الاحتجاز. ويتم حاليا تصوّر مشروع جديد بأسوار من نوع مختلف للأراضي العامة المفتوحة على مصراعيها، والتي تنتشر فيها نباتات الميرامية والأعشاب البرية.
معارضة مشروع الرياح
ومع نيّة إدارة الرئيس جو بايدن مكافحة تغيّر المناخ من خلال السماح بنحو 25 غيغاواط من الطاقة المتجددة في الأراضي العامة خلال عقد من الزمن، طرحت شركة تدعى “ماجيك فالي” فكرة إنشاء مزرعة رياح ستكون ثاني أكبر مزرعة في الولايات المتحدة، بانتاج يصل إلى ألف ميغاواط. وسيتم تنصيب توربينات شاهقة ضمن مشروع لافا ريدج في أجزاء من ثلاث مقاطعات، ومضاعفة إنتاج طاقة الرياح في ايداهو.
“هناك حاجة هائلة، حاجة قائمة على السوق للطاقة النظيفة في ايداهو وفي جميع أنحاء الغرب... يتم طلبها من قبل المرافق والشركات وقادة الدولة، وفي الواقع من قبل العديد من الأميركيين الذين يحاولون دفع هذا البلد نحو الاستقلال في مجال الطاقة،” كما يقول “لوك لوبيز”، مدير المشروع من شركة ماجيك فالي، التي تتخذ من نيويورك مقرا لها.
ومع ظاهرة الاحتباس الحراري، تم استنباط مزارع الرياح كوسائل لمواكبة زيادة النشاط الاقتصادي، وإيرادات لضرائب محلية جديدة، وأداة حيوية لأهداف البيت الأبيض فيما يخص الطاقة النظيفة. “تعد مشاريع الرياح المتجددة عنصرا مهما في التزام إدارة بايدن بمواجهة تغيّر المناخ، وتعزيز الهواء والماء النظيفين للأجيال الحالية والمستقبلية، وخلق الآلاف من الوظائف النقابية ذات الأجر الجيد، والبدء في إنتقال البلاد إلى مجتمع نظيف،” بحسب تصريح “ديب هالاند”، وزير الداخلية الأميركي.
وتأمل ماجيك فالي الآن في الحصول على موافقة مكتب إدارة الأراضي العام المقبل والمباشرة بالعمل في العام المقبل، وبدء عمليات الانتاج بحلول العام 2026. لكن المعارضة تكاد تكون عالمية في مناطق الصحراء المرتفعة، حيث ستقوم الشركة ببناء الأسيجة والطرق المؤقتة على امتداد مئات الأميال، بالإضافة إلى المئات من الألواح الخرسانية للتوربينات.
وهناك مخاوف من أن تتعرّض المناظر الطبيعية المعزولة التي تجذب المسافرين إلى ندوب دائمة، وأن المتفجّرات المستخدمة في البناء ستؤدي إلى إتلاف طبقة المياه الجوفية، وسيلقي المشروع بظلاله على الصحراء التي يزورها الناجون من مينيدوكا.
ومع اقتراب مكتب إدارة الأراضي من القرار النهائي، يعلن الناجون من مينيدوكا وأحفادهم أن الموقع مكان للشفاء يحيي ذكرى الصدمات التي لا تزال عائلاتهم تكافح من أجل فكها وإخراجها. يقول النائب الجمهوري عن ولاية ايداهو “جاك نيلسون”: “لا أقصد الإنحياز إلى أي طرف في التاريخ، لكن السبب وراء دراستنا للتاريخ هو عدم القيام بهذه الأشياء مرة أخرى.”
الصبي في الصورة
خلال الأحد عشر شهرا التي قضاها في المخيّم الصحراوي، كان بول توميتا يشتاق إلى منزله في سياتل المحاط بالخضرة؛ وكان يسأل أمه دائما: ما الخطأ الذي ارتكبناه حتى إنتهى بنا الأمر هنا؟ متى سنعود إلى المنزل؟ يتذكر توميتا، البالغ من العمر الآن 84 عاما، قائلا: “بالطبع، كان على أمي أن تلف وتدور باجابتها. وعلى الرغم من أنني كنت صغيرا، كنت أعرف أن هناك خطأ ما.”
كانت عائلة توميتا وآلاف الأميركيين اليابانيين الآخرين تحت سيطرة هيئة الترحيل الحربي التابعة للجيش. “لقد أخبرونا متى يمكننا أن نأكل، ومتى يمكننا النوم، ومتى يمكننا فعل أي شيء،” يقول توميتا. أدى الغبار المتواصل في غرفة العائلة إلى تفاقم حالة الربو لديه، ليرسل مرارا وتكرارا إلى مستشفى المعسكر.
وعندما تصاعد غبار الصحراء الكثيف من خلال الثقوب الموجودة في جدران كوخ العائلة، غمرت والدته ورق الصحف في الماء لكي تقوم بإغلاق أكبر تلك الفتحات؛ لكن تلك المواد جفت وانهارت. يتذكّر توميتا قائلا: “الغبار يحيط بك من كل مكان، فهو يلفح وجهك، ويجد طريقا إلى أذنيك، وينفذ إلى أنفك، بل ويدخل إلى فمك.” وفي النهاية، قال توميتا، أدرك الجنود الأميركيين على الجانب الآخر من الأسلاك الشائكة أن هؤلاء الأميركيين اليابانيين في مينيدوكا لا يشكلون تهديدا، ويضيف قائلا: “حتى لو اجتزنا السياج، إلى أين سنذهب؟”
لا ننسى أبدا
بينما كانت عائلة توميتا محبوسة، تقدّم والده بطلب للحصول على وظيفة في الساحل الشرقي مع مكتب الخدمات الإستراتيجية، وهو مكتب سابق كان تابعا لوكالة المخابرات المركزية. كانت مهمته هي ترجمة الدعاية الأميركية إلى منشورات يابانية تحث الجيش الياباني على الاستسلام، والتي سيتم إسقاطها في جنوب المحيط الهادئ.
ولأجل العودة إلى الحياة خارج المعسكر، إحتاج توميتا وأخته الكبرى وكذلك الصغرى، التي كانت تبلغ من العمر عامين آنذاك، إلى بطاقة سماح تحتوي على بصمة إصبع وصورة. وبعد انتهاء الحرب، عادت العائلة إلى سياتل، حيث قام الجيران بالحفاظ على معدات التنضيد التي سمحت لهم بإعادة أعمال العائلة في مجال الطباعة.
عندما دخل الأطفال المدرسة الثانوية، أبرزت والدتهم لهم بطاقات مغادرة مينيدوكا الخاصة بهم. وبعد حصوله على درجة الماجستير في استشارات إعادة التأهيل من جامعة ولاية أوريغون، قدم توميتا خدمات الاستشارة وإعادة التأهيل للشركات والهيئات الحكومية على الساحل الغربي. وتبنى هو وزوجته إبنة تبلغ الآن 53 عاما من العمر، ولديها طفل.
وفي تموز الماضي، أحضر توميتا نسخة من بطاقة الخروج الخاصة به عندما عاد إلى المخيم لإجراء رحلته السنوية للمعسكر، حيث يأمل بأن تتمكّن الأجيال القادمة من زيارة هذا الموقع العزيز لدى الأميركيين اليابانيين.
يقول توميتا: “لأنهم ألقوا بنا هناك، سواء شئنا أم أبينا ذلك، فهي أرضنا المقدسة.”
صحيفة الاندبندنت البريطانية