أحمد عبد الحسين
في أوّل توقيع لي على مكافآت كتّاب "الصباح" بعد استلامي مهمة رئاسة تحريرها، لمحتُ اسم حسن العاني من بين أسماء الكتّاب، فكتبت هذه الجملة: "لي الشرف أنْ أوقّع على مكافأة لك زميلي الكبير ومعلّمي". كنت أدرك أن العاني لن يقرأ ما كتبتُ لكني اردت تذكير نفسي أن مَنْ لا معلّم كبيراً له لن يصبح ذا أهمية مهما بدتْ علائم نجاحه.
وحسن العاني معلّم كبير حقاً. لأنّ خير المعلمين مَنْ لم يعط درساً بلسانه بل بسيرته، أو بتعبير سيّد البلاغة عليّ بن أبي طالب " وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه".
أجلى دروس العاني أنه أعطى عمره كلّه لمهنته، وكان ـ شأنه شأن المخلصين للصحافة ـ يحصد خسراناً، أهونه خسران الوقت والجهد والأعصاب لقاء مردود ضئيل، وأشدّه على النفس خسران انشغالاتنا الأقرب للوجدان، فقد كان العاني قاصاً مميزاً وأصدر ثمانية كتب قصصية، لكني أحسب أنه لو لم يكن مستغرقاً في شغفه بالصحافة لأعطى لنا نتاجاً أكثر في السرد.
التقينا مرات عدّة، لكنّ صورته عندي لم تخلقها هذه اللقاءات بل قراءتي له ومراقبتي إياه من بعيد، لأنّ أمراً ما وثيقاً كان يجمعنا، لعلّه اشتراكنا في الخسران، أنا الذي تأخذ الصحافة مني ليل الشعر ونهاره وتعطيني بدلاً عنه أخباراً وتقارير وتحقيقات.
رحل حسن العاني أمس تاركاً وراءه كتباً كثيرة وسيرة مضيئة وحزناً في نفس كلّ من رآه وقرأ له. لكنّ ميراثه الأغنى كان العمود الصحفيّ، قال لي قبل سنتين إن مجموع الأعمدة التي كتبها قد يصل إلى اثني عشر ألف عمود. فقلت له إن مجرد قراءة هذه الأعمدة لا كتابتها تحتاج إلى عمر بأكمله.
وبالفعل فإن الكاتب ينشئ أعماراً مضافة في ما يكتب، يستحدث زمناً آخر ويفتح كوى ونوافذ في جدران العالم ليطلّ منها الآخرون على حياة أغنى وأعمق ربما تمنّى الكاتب لو أنه عاشها بدل أن يكتبها فحسب.
حزني كبير برحيل "أبي عمّار" لكنّ حزن صحافة العراق عليه اشدّ. وعزاؤنا أنّه باقٍ معنا في الحياة التي عشناها ونعيشها في أعمدته اللماحة الساخرة التي توجز لنا الكثير في جمل قليلة.
في إحدى أزماتي مع السياسيين وبعد فصلي من العمل كتب حسن العاني عموداً كان عنوانه "أحمد عبد الحسين". يعزّ في نفسي أن أردّ له الجميل بهذا العمود الذي يحمل اسمه وهو غائب.
لروحك الرحمة يا معلّمي