ينفرد الإنسان بالعقل وبملكة الخيال
د. عبد الجبار الرفاعي
لا يمكن تصورُ إنسان يعيش في الأرض بلا خيال، لا ينفرد الإنسان بالعقل وحده، بل ينفرد بملكة الخيال أيضا. في الخيال يعيد الإنسان بناء صورة العالم، ينتج هذه الصورة بوصفها ضرورة لإمكان العيش في عالم يستطيع تمثله بلا خوف منه واغتراب فيه. يرى الإنسان العالمَ في ضوء ما صنعه خياله، ليجعل إيقاع حياته متناغما والصورة المتخيَّلة له في ذهنه، فينخفض شعورُه بالخوف والاغتراب. تنعكس الصورة المتخيَّلة للعالم على لغةِ الإنسان وثقافته وفنونِه السمعية والبصرية، وعلى علاقاته ومؤسساته المختلفة، وحياته الفردية والمجتمعية.
الخيال وما ينتجه من الصور والرموز والإشارات والعلامات والخطوط والشعارات والكلمات يعيد إنتاجَ كيفية تذوق الإنسان للعيش في الأرض ويحدِّد نمطَ وجوده.
ينشد الإنسانُ في كلِّ أنشطته وأعماله وإبداعاته واكتشافاته وثقافاته وفنونه وكتاباته رسمَ صورةٍ في خياله لعالَمٍ يستطيع العيشَ فيه، ويظلّ يغذّي هذه الصورةَ على الدوام ويرسّخها في ضوءِ ما تصنعه مخيلتُه من لغةٍ ورموز وثقافة وألوان وجغرافيا وحدود لهذا العالم.
المخيلةُ منجمُ الإبداعِ البشري، كلُّ شيءٍ يضيقُ فيه الواقعُ يتمكنُ الإنسانُ من تخيّله. بواسطة التخيُّل أصبح الإنسانُ كائنًا يتطلع للمستقبل، ويرسم خارطةً لتطويرِ أحواله وتحسينِ ظروف عيشه والتقدّمِ للأمام.
لولا الخيالُ للبث الإنسانُ يكرّر كلَّ شيءٍ، في طريقة عيشه وطعامه ولباسه وتأمين احتياجاته المتنوعةكما يفعل الحيوان، ولم يتمكن من إنتاج العلوم والمعارف والتكنولوجيا والثقافة والآداب والفنون والحضارات.
الاختراعات والاكتشافات العلمية يحتضنها ويولّدها المخيال، لذلك يشدّد غاستون باشلار على «أهمية المخيال والأحلام الشاعرية للعقل العلمي». التخيّل غير التوهم، والمخيال غير الوهم، المخيال واسعٌ لا حدودَ له، يسمح لحضور الأحلام والتطلعات المختلفة بغدٍ أجمل. الواقع ضيّقٌ محدود جدًا بحدوده المحسوسة، يعجز الإنسانُ عن فرض صورةٍ عليه لا تشبهه، الواقع يتنكر لتغطيته بصور ذهنية لا تتطابق وفضاءَه المحدود. الواقعُ ضحلٌ المخيال عميقٌ، الواقعُ فقير المخيال غنيٌ، الواقع ضيقٌ المخيال واسع جدًا. لا يستوعب أحلامَ الإنسان، ومختلفَ ما يتطلع إليه من صور لعالم يتمناه ويرغب أن يعيش فيه إلا المخيال. أكثر عمر الإنسان يعيشه في متخيَّله لا في الواقع اليومي، يهرب الإنسانُ باستمرار من الألم والاكتئاب والحزن والأسى إلى الخيال. عجزُ الواقعِ المحسوس عن إشباع احتياجات الإنسان المتنوعة يدعوه للاستعانة بالتخيّل لتعزيزِ الأمن النفسي، وخلقِ تناغم مع ايقاع وجوده في العالم، والشعورِ بإمكانية تأمين تلك الاحتياجات مما هو خارج الواقع.
إن كان الواقعُ مظلمًا يستطيع خيال الإنسان أن يشعره بفضاءٍ مضيء رحب خارج اختناقه بالواقع. السعادة المفقودة في الواقع يمكن أن يشعر الإنسانُ بأنه يتذوق شيئًا منها في المتخيَّل، مباهج الحياة المفقودة في الواقع يمكن أن يشعر الإنسانُ بأنه يتذوق شيئًا منها في المتخيَّل. الواقع لا يطاق، الواقع شديد عنيف موحش، لولا الخيال لمات الإنسانُ مفجوعًا. ما يحمي الإنسانَ هو الخيال الذي يصنع له عالما رحبًا يعيش في فضائه، لا بما يفرضه عليه الواقع، ولا طاقةَ له على تغييره.
الواقع مفروض على الإنسان، الخيال يمكن أن يتصرّف فيه الإنسانُ بالخلق والإبداع كيف يشاء. عالم الخيال هو الأوسع والأثرى، يتسع الخيال لما يضيق فيه الواقع. هو موطنُ تشكّل ما يحتاجه الإنسان من المعاني لحياته. المعاني العذبة من صنائع الخيال، لا من صناعة الواقع الموحش.
أفلاطون تحدّثَ عن الخيال بمدلوله الماورائي في عالم المُثُل، وهو عالم يسبق العالم المادي في نظره. باستثناء أفلاطون كان الاتجاهُ العقلي السائد في الفلسفة اليونانية ينظر للخيال بوصفه: «الجانب الخادع في النفس الذي يقود إلى الخطأ والزلل»، كأنه يرادف اللاعقلاني والتوهم. منذ ذلك الوقت ظل الخيال منسيًّا، وكان يحذّر منه الفلاسفةُ بوصفه ضدَّ التفكير العقلي. عزّزت فلسفةُ ديكارت مركزيةَ العقل وكرّست تغييبَ التخيُّل، وتضييقَ آفاق المعرفة وحصرَها في حدود العقل بالمعنى الذي حدّده ديكارت في مؤلفاته وكتابه الأثير: «مقال عن المنهج». إيمانويل كانط (1724-1804) أعاد للتخيُّل نصابَه، وأخرجه من مدلوله الماورائي عند أفلاطون، واستوعبه في المعرفة، وتنبّه إلى فاعلياته الخصبة في توليد المعرفة وإثرائها. لم يعد التخيُّلُ ضدًّا ولا حتى رديفًا للعقل، بل اتسع به فضاءُ العقل. مع كانط اتسعت مملكةُ العقل لاستيعابِ ملكة الخيال، واكتشافِ مصدرٍ غزير لإنتاج المعرفة، لم تمنحه الفلسفةُ اهتمامًا يتناسب وأهميتَه قبل ذلك. بعد كانط اهتمّ الفلاسفةُ الألمان بالمتخيَّل، وذلك ما نقرأه في أعمال: شيلنغ، وشوبنهاور، وهيغل، ونيتشه، وإدموند هوسرل، وهايدغر، وغادامير، ومعهد العلوم الاجتماعية في فرانكفورت.
كما اهتمّ بالمخيال في فرنسا، هنري برغسون، وسارتر، وميرلوبونتي، وكامو. وجاك لاكان، الذي ألّف كتاب: «اللغة الخيالي والرمزي» وغيره، لدراسة المخيال في سياق قراءة جديدة للتحليل النفسي ومناهجه. وغاستون باشلار، الذي درس الخيال الشعري في كتابه: «شاعرية أحلام اليقظة» وغيره. ودرس اليوناني الفرنسي كورنيليوس كاستورياديس تأسيس المجتمع في المخيال في كتاب «تأسيس المجتمع تخيليًا».
مضافًا إلى الأعمالِ المتعدّدة لبول ريكور حول المخيال والذاكرة والسرد، مثل كتابه: «الذاكرة، التاريخ، النسيان»، الذي درس فيه «تاريخ التمثّلات» في سياق نقده لـ «تاريخ العقليات»، وقبل ريكور نقد ميشيلُ فوكو «تاريخ العقليات» في كتابه «حفريات المعرفة». وأسس غيلبرت دوراند عام 1966 في جامعة غرينوبل بفرنسا «مركز البحوث الخاص بدراسات الخيال». وكتب موريس غودلييه: «المتخيل المخيال والرمزي»، وغيره من المؤلفات حول المخيال. ودرس بيير بورديو رأس المال الاجتماعي والثقافي والرمزي في عدة مؤلفات، وكشف عن أساليب الهيمنة الرمزية، وأدوات العنف الرمزي وكيفية توظيفها في انتاج السلطة.
وأصدر أندرسون كتابه: «المجتمعات المتخيلة: تأملات في أصل القومية وانتشارها» عام 1983. وكانت مساهمة الأمريكي رايت ميلز في كتابه: «المخيال السوسيولوجي» الصادر عام 1959، من الأعمال الرائدة في اعتماد المخيال بوصفه مفتاحًا لتفسير كيفيةِ تشكّل المجتمع وصيرورته، وفهمِ نمط إنتاج تصوراته ومعتقداته وثقافته وهويته ورؤيته للعالم في فضاء الخيال المجتمعي. وألّفت فالنتينا غراسي أستاذة علم الاجتماع في جامعة بارثينوب في نابولي بإيطاليا كتابها: «مدخل إلى علم اجتماع المخيال: نحو فهم الحياة اليومية». وأصدر الكندي تشارلز تايلور كتابه: «المتخيلات الاجتماعية الحديثة».
وقبل ذلك فتح سيغموند فرويد في مدرسة التحليل النفسي آفاقًا جديدة للكشف عن جذور تشكّل المخيال في اللاوعي، وجاء كارل غوستاف يونغ واكتشف منابعَ المتخيَّل في اللاوعي الجمعي، ودرس الصورةَ والرمزَ والأسطورةَ والأنموذجَ الأصلي. واتخذت دراسةُ الخيال مكانةً مركزية في الفلسفة الفينومينولوجية منذ إدموند هوسرل، وحضرت الصورةُ والتخيُّل والمتخيَّل والخيال بكثافة في الفينومينولوجيا وتفسيرِها للوعي ومفهومِها الفلسفي للعالم. ألّف سارتر كتابين، درس فيهما ما يمنحه الخيالُ للذهن، وكيفيةَ تحقّق الوعي وتمثّل العالم بالخيال في ضوء الفلسفة الفينومينولوجية.
أصدر الكتابَ الأول سنة 1936 بعنوان: «الخيال L’imagination»، والكتابَ الثاني سنة 1940 بعنوان «الخيالي «L’imaginaire». يقول سارتر: « إن المخيلة ليست سلطة تجريبية أو مضافة إلى الوعي، بل إنها الوعي بأكمله حين يتحقق، فكل وضعية عينية وواقعية للوعي في العالم تكون مشحونة بالمتخيل حين تتقدم دائما باعتبارها تجاوزًا للواقع”.
اتسعت دراسةُ المخيال وتنوعت مجالاتُها في الفلسفة وعلم النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا، وتحليل الخطاب، والألسنيات، والتاريخ، واتخذت مدرسةُ الحوليات الشهيرة في فرنسا من “تاريخ العقليات/ تاريخ الأفكار” موضوعًا يدرس البنيةَ الذهنية ونسيجَ الأفكار المولّدة لروح المجتمعات، وأثرَها في تشكّلها وصياغة هويتها، وكيف تصير بوصلةً لمسيرتها التاريخية. البنية الذهنية الجمعية منجم ثريّ يختزن الرؤيةَ للعالم وما هو غاطسٌ ولاواعٍ في الدين، والثقافةَ والفن، وروافدَ السلطة وشبكاتها وأنماطها، في ضوء ذلك أضحى البحثُ التاريخي في مدرسة الحوليات يذهب لتمحيصِ ودراسة مكونات هذا المنجم، وتفحّصِ ديناميكيته الداخلية، واكتشافِ فاعليته في بناء الجماعة، وبيانِ الأفق الذي تسترشد به الجماعةُ وتتطلع في ضوئه لصورة مستقبلها.
وأضحت دراسةُ المخيال وفاعلياته الأساسية في إنتاج المعرفة حقلًا أساسيًّا في الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والألسنيات وعلم اللغة والميثولوجيا. وتطورت دراساتُ علم اجتماع المخيال، وظهرت أبحاثٌ ثمينة حول الكشف عن أثره في تشكّل الأديان والفرق والمذاهب والجماعات وتوالدها.