حيدر علي الأسدي
تتجلى ملامح ما يسمى في المصطلح المعاصر (أدب الدستوبيا) الأزمة البيئية والوباء، وكذلك التسلط والدكتاتورية، وصور الإرهاب والقمع والفقر وغيرها من أحداث تجمع ما بين الأزمات وصورها في الأدب.
فالوباء الذي يشكل مدخلا أساسيا لفهم هذا الاستلاب سيسهم في تقديم قراءة متفحصة وفنيّة لعوامل، منها (الذات المفتقدة للهوية والنفس المريضة، المتأثره بالنظم الشمولية، وانتزاع الإنسانية، وتخريب الأسرة في مقابل القهر)، وكل ذلك في مدينة فاسدة ذات واقع مرير يصيبها تمزق الهوية الذي يبشر بمستقبل أكثر كأبة، كما جاء في دراسة الدكتور محروس محمود القللي (دستوبيا الوباء في الرواية المصرية: دراسة مقارنة). أي أن أزمة الوباء أو المرض غالبا ما يتم توظيفها في اطار أزمات أكبر ضمن الفهم الدستوبي. وأعني هنا أزمة النظام الشمولي وأثره، واغتراب الإنسان واستلاب هويته، والقهر الذي يمارس بحق الأفراد، وأزمة فقدان الهوية كلها في إطار دستوبي يتجلى عبرها إنصهار أزمات متعددة من ضمن بوتقة الأدب مما يجعله (أدب سوداوي، أو فاسد) بكل ما تحمل هذه المفردة من معنى، فضلا عن تجلي الأزمات الأخرى في هذا الشأن، ومنها أزمة الحروب والكوارث التي تحصل للمجتمعات والأفراد على حد سواء، حيث تعاطت مع «الدستوبيا» بوصفها تمثل الكوارث والحروب والأزمات كمصادر مهمة لموضوعاته.
ومع كثرة الأزمات وتفشيها في المجتمعات، بات الشكل الدستوبي للأدب هو الطريقة التي تحفز المبدعين والمفكرين للتعاطي مع تلك الأزمات، لذا تشير المراجع والمصادر المعنية بأدب الدستوبيا إلى أنه قد برز وظهر بشكل واضح مع اندلاع الحربين العالميتين الأولى
والثانية. إذ ظهر، وقتذاك، ما يدعى بوباء «الانفلونزا» وكذلك أزمة الكساد الكبيرة، ونشوب الحرب الكورية والفيتنامية وغيرها من أحداث مصيرية مرعبة في القرن العشرين أسهمت باتجاه بوصلة الكتابة نحو «الدستوبيا» التي اصبحت السمة الغالبة على الآداب والفنون تلك الحقبة.
وقد شهدت ظهور كتابا ثاروا على الأوضاع الفاسدة والمرعبة سواء في المانيا أو أمريكا أو فرنسا.
أي أن الأدب بات يبحث عن تلك الأزمات وتأثيراتها في المجتمعات وأفرادها.
وبخاصة الأزمات الوبائية التي تتعلق بتفشي الأمراض، وكذلك الاقتصادية المتمثلة بالأزمة العالمية الكبرى المتعلقة بالكساد.
ولم يتوقف «الأدب الدستوبي» عند هذا الحد، بل لاحق التطورات التقنية بعد الثورة الصناعية وما شهدته من قفزات تصدرت من خلالها الآلات على حساب الإنسان وبات يشاع ما يعرف بمفهوم مابعد الإنسان، وكذلك شيوع مفهوم الشركات متعددة الجنسيات وهيمنتها على ثروات الدول النامية، فضلاً عن انتشار الحروب والصرعات الإقليمية والدولية بين البلدان المتنافرة والمتناحرة والمتناقضة وعلى أسباب متعددة.
وما حصل خلال الأزمة الوبائية الأخيرة التي اصابت العالم، ورصد العشرات من النتاجات خلال تفشي «كوفيد19» ومتحوراته، وعلى مدى 3 أعوم تقريباً، كانت الغلبة (للرواية)، أي أن النتاجات الدستوبية عالجت تلك الأزمات من وجهات نظر المنتجين لهذا الخطاب الثقافي الجديد الذي ينطلق منها وعنما خلفته على المستوى السيكولوجي والسيسولوجي، وكيف يواجه الفرد هذه الأزمات التي غالبا ما تنعكس على صورته الشخصية المعاصرة والمملوءة بها، وفقا لما نتج من انعكاسات سلبية.
من هنا يأتي هذا الادب منذراً أو موقظاً لحالة الفرد إزاء ما يتعرض له من أزمات تنعكس بالسلب على صورته النفسية والاجتماعية، وبهذا يسهم وفقا لما تقدم بتصوير انعكاس الأزمات على الإنسان أولا، وثانيا وهو الأهم ممارسة الدور الوقائي واشعار الفرد بأهمية اليقظة إزاء ما يمكن أن يتعرض له بصور غير مباشرة، فكلما تزايدت صور الأزمات وانعكاسها في الحياة اليومية كلما تحفز الأدب الدستوبي على تصويرها.