د. سافره ناجي
إن من أهم مرتكزات الشعريّة هو الانزياح الذي يشكل فعل استجابة لمتغيرات الواقع، لهذا فإن الانزياح في «الموندراما» هو عدولها عما عرف به النص المسرحيّ، بأنه «إرادات متصارعة»، في حين أن نص «الموندراما جماليا» هو مسرحية الشخصيّة الواحدة، وفنيا مسرحية الممثل الواحد.
وشعرية الانزياح هنا - وكما نراها- تكون قارة في السياق التداولي لنص يحول المنولوج الذاتي إلى بوح كلي. ولأن الإدراك الحسي في «الموندراما» هو معيار الفهم الجمالي فيه، فإن هذا المعيار يمثل في استعارته للبوح تقنية فنية يكشف بها عن المدرك الحسي الذي يعيَن فيه ماهية الموقف الإنساني في واقع اليوم.. لذا فأن البوح في «الموندراما» هو تجاوز لمفهوم البوح الفردي إلى البوح الكلي. لأنه إرادة الفعل الدرامي الذي نكتشف به الوجود وتحولاته من منظور التجربة الفردية، ومن خلالها نحلل ونقيم تحولات هذا الوجود لتكون تجربة جمعية. وهو ما يؤكد أن الشعريّة في «الموندراما» لها أدبيته الجمالية الخاصة التي يفصح عنها البوح الدرامي في «الموندراما» وفرضيتها بتحقيق فرادة إبداعية تؤكدها طروحات شعريّة.إن الفرادة التي تتسم بها نصوص «الموندراما» نقرأها في أسلوب البوح الوجداني بتمظهره الأحادي شكلاً مسرحياً تنصهر في فرديتها الكل الجمعي. ولذلك فأن علاماته الفردية هي كون جمالي من تكثيف علامي يتشظى إلى تعددية فعل درامي تصدم فيه المدركات الحسية والعقلية، وكذلك رد فعلها السلوكي، لأنها فعل إعادة انتاج مغاير لدلالة المنولوج الذاتي ليكون منولوج موضوعي، فهو فضاء مغاير لقراءة باتجاه عكسي تشرع من الذاتي إلى الموضوعي -وعلى العكس- وتصادم بين وجهين، الأول ذات تكشف الموضوع، والثاني موضوع يكشف الذات.
وهنا نرى أن الشعريّة تؤطر أدبية النص بين ذاتية المنولوج وموضوعية الدراما، وهذا الاصطدام موقف جمالي يحاكي اشكاليات تواجه الإنسان المعاصر في شكل يغاير تقنية الشكل المسرحي السابق عليه. لذا نجد في نصوص «الموندراما» تكنولوجيا دراما مختلفة بملامحها وسماتها الخاصة بها.. ومن أهمها هي الجمع بين الأدبية والفعل الدرامي لبنية النص بمستوييها الظاهر والباطن، أي بمعنى أنه يتقارب مع ما أرست عليه الشعريّة من قواعد في بحثها عن المعنى في بنيته الباطنة – علماً أن البوح ما هو إلا دليل للحفر في بنيته، ولاسيما البنية الداخلية التي تفرد نص عن آخر.
وبما أن بنية «الموندراما» هي سرد فردي غائص في ما أضمر من تاريخ الشخصية التي تتجلى شعرية في البوح. لذا فأن معنى المعنى الذي تقره الشعريّة هو فرضية جمالية تنفتح على تأويل البنية الباطنية للنص، وتحري المعنى الكامن في أدبية النص البوح.. إذ تمكننا هذه الاستعارة من الكشف عن درامية النص وتأويله- بوصف أن التأويل هو أحد مدخلات الشعريّة ومساراتها في قراءة بنى النص دراميا وفنيا- وكما هو شائع معرفيا في أن كل قراءة هي بحث فيما يخفي الشكل الخارجي من معاني، وأن هذا الشكل له بنية داخلية تعلن فيها عن الموقف الجمالي لطبيعة المحاكاة، وقطعا له مظهر خارجي نتفاعل معه حسيا لنفهم مظهره الباطني عقليا، وعلى ضوء هذه العلاقة التي يتحرك في فضائها الكاتب في مرحلة الكتابة، والمتلقي في زمن التلقي وما بعده، أي بمعنى أن البوح هو الصورة التي تتمظهر فيها الذات كينونة حاضرة في «الموندراما» وهذه العلاقة هي بنى التركيب التي ينتقيها الكاتب ويرسم مساراتها الدرامية، أي بمعنى الطاقة الجمالية لموضوع المحاكاة لذلك رد صلاح فضل الشعرية إلى الطاقة فقال «هي الطاقة التعبيرية للغة البوح».
وهذا ما نراه في شعريّة «الموندراما» وأسلوبيّة البوح الذي تتسم بها نصوص «الموندراما»، إذ تنشط طاقة القراءة لنظام البنية الباطنية للنص، بحسب مفهوم تودروف، للشعرية، وبحثها في المعنى المهيكل لأي تكوين تعبيري، فهنا لابد من أن يحمل معنى غير معلن تنسجه مجمل العلاقات مع بعضها لينتج معنى ما، ولأن البوح في مدركه الحسي يشكل بحثا أوليا في معنى الوجود، وبحثا في المعنى الجمالي الناتج عن كيفية نظم البوح. فأن الكشف عن خصائص النظام الداخلي للنص من داخله وخارجه وتأويله لكشف ما يضمر هذا النظام من معاني.
بمعنى، أنه عملية فهم لهذا التركيب الذي تفككه اجراءات القراءة النقدية للشعريّة وتعيد تركيبه من جديد، فأن شعريّة «الموندراما» هي قراءة في معنى المعنى.