التجريد في الفن الإسلامي
مرتضى الجصاني
يلتبس على كثير من النقاد والفنانين مفهوم التجريد في الفن الإسلامي، ويحدث الخلط المربك بين التجريد في الفن الإسلامي والتجريد في مدارس الفن الغربية التي نشأت في بدايات ومنتصف القرن العشرين، لكن الأمر مختلف تماما بين هذا التجريد وذاك.
يمكننا القول: إن “التجريد هو القدرة على تخليص الصفة المشتركة بين مجموعة من الجزئيات ومعرفتها، أو هو انتزاع الكلي من الجزئي، بتخليص المعنى من المادة، حيث يمكن استحضار الشيء من غير أن يرتبط هذا الاستحضار بشروط الوجود المادي، وبشروط المكان والزمان، عكس التعميم الذي هو إطلاق هذه الصفات المستخلصة من كل الجزئيات والأشياء التي تشترك في تلك الصفة، مع اتساع هذه الصفة لما يستجد من جزئيات وأشياء داخل نفس المجموعة”، فالتجريد الإسلامي نابع من مجموعة معتقدات فلسفية ودينية ، بداية من تحريم رسم ذوات الأرواح إلى تجريد النص الديني، وتحريم رسم ذوات الأرواح هذا اتخذ شكلاً آخر، بمعنى لم يستمر كما هو، بل نتيجة ذلك انزاح الفنان المسلم إلى أشكال أخرى من الفن؛ أشكال توفر جوا من الطمأنينة والاتصال الروحاني مع الله أو المطلق بصورة عامة. تنوعت هذه الأشكال وتعددت، فقد استطاع الفن الإسلامي أن يصور الكثير من المضامين الروحانية عن طريق حركة وشكل الزخارف والمنمنمات وأعمال الخط العربي الذي كان طابعه وظيفي، ثم ما لبث أن تطور إلى أشكال تجريدية اتخذت من النص معنى تعبيريا تصويريا. استمر الفنان المسلم في تطويع وتطوير التعبير عن النص بالابتعاد عن الرسم المباشر، وهذا لم يمنع بعض الرسامين والخطاطين من التصوير والرسم، فأعمال الواسطي خير دليل على السمو الفني والتقني في الأعمال الفنية، إذ كان الواسطي رساما ومزخرفا وخطاطا، وقد أبدع في تصوير مقامات الحريري إبداعا لا يمكن تجاوزه، ولا يمكن التغاضي عن منجزه الكبير . وبالعودة إلى تجريدية الفن الإسلامي، لابد من التنويه باللغط الذي يثيره هذا المصطلح، فالتجريد في الفن الإسلامي غير التجريد في الفن الغربي، وذلك لأن مرجعية كل منهما مختلفة تماما عن الآخر، إذ يرتبط تجريد الفن الإسلامي بمرجعيات دينية فرضت على الفن حدودا فنية لا يمكن تجاوزها، وهذه الحدود توفر وتعزز الحس الديني والروحاني لدى الفنان، وهذا الارتباط بالمطلق والجوهر هو المصدر الأساسي لمادة الفنان المسلم، إذ تحولت كل المخلوقات إلى كائنات مجردة، وبالتالي تحول البشر والشجر والجماد إلى جوهر أو روح يعبر عنها بشكل رمزي، إما من خلال الزخرفة أو من خلال فن الخط العربي، وإذا تعمقنا أكثر في تجريد الفن الإسلامي نجده يتضمن تجريدا داخل التجريد العام له، فالخط العربي كفن هو الآخر مجرد داخل تجريدية الفن الإسلامي، إذ تتخذ الحروف صوراً تجريدية في غاية الغرابة أحيانا، كتشبيه حرف الألف في خط الثلث بجسم الإنسان من صدر وعجز وخصر، ويحسب بحسب نسبته الذهبية، وكذلك حرف العين، له حاجب كحاجب العين البشرية، والزلفى في ترويسات حروف الثلث كلها تعبيرات مجردة عن أشكال بشرية، وهكذا نجد تسميات الحالات والتناغمات الخطية كلها مأخوذة من معنى بشري مجرد أو نباتي أو حيواني، فهناك العين الثعباني والكاف الزنادي والوردة والورقة والترفيل، كلها تسميات مجردة يستعملها الخطاط أو الفنان المسلم من دون الانتباه إلى أصل التسمية، حتى صارت جزءا من فن الخط العربي، وبذلك نلاحظ أن للخط تجريديته داخل منظومة الفن الإسلامي المجرد، وهذا يسري على أغلب الفنون الإسلامية كالزخرفة النباتية والحيوانية والهندسية ..إلخ، كلها تتخذ معاني دينية ملتزمة وتتضمن قيما أخلاقية عالية تدعو إلى الفضيلة والالتزام. ما أود قوله هو أن التجريد في الفن الإسلامي جاء نتيجة لتقييد الفنان المسلم بالقيم الدينية والفلسفة الإسلامية، وبالنتيجة صار هذا التجريد هو السبيل الوحيد للتعبير، وفي كل الحالات، لا يعبر هذا التجريد عن ذات الفنان، بل يعبر عن قيمة إنسانية عليا أو قيمة دينية سامية، وهذا المفهوم نشأ وتطور في ظل منظومة اجتماعية ودينية متكاملة، وما الفنان إلا أداة تتقن التعبير والتجويد والتنفيذ، وبالتالي أصبح الفن الإسلامي فنا حرفياً ذا قيمة عالية، لكنه لا يرتقي إلى مفهوم الفن الحقيقي. من جهة أخرى، منح هذا التجريد اللوحة بعدا روحانيا، ومنح الفنان القدرة على المحاولة والتعبير ضمن هذه الحدود من دون التعبير عن ذات الفنان أو ما يجول في خاطره.
أما مفهوم الفن التجريدي الغربي فهو لا يتطابق مع المصطلح الإسلامي.
تعرف المدرسة التجريدية في الفن التشكيلي على أنها تجريد كل ما هو محيط بنا عن واقعه، وإعادة صياغته برؤية فنية جديدة، يتجلى فيها حس الفنان باللون والحركة والخيال. وكل الفنانين الذين عالجوا الانطباعية والتعبيرية والرمزية نراهم غالباً ما ينتهون بأعمال فنية تجريدية، وحالة المدرسة التجريدية متقدمة بالفن في وقتنا الحالي.
الفن التجريدي نوع من أنواع فن القرن العشرين، ينبذ الموضوع المحدد المعالم، ويسمى أحيانًا فن اللاهدف.
تمرد الفن التجريدي على تقاليد تاريخية عريقة في الثقافة الغربية كانت تعدُّ الفن نوعًا من الإيضاح الراقي، وكانت الأعمال الفنية تنال الإعجاب بسبب الاهتمام الذي توليه للقصة أو الموضوع الذي مثلته اللوحة. أخذت هذه الفكرة في التغيُّر في بداية القرن العشرين الميلادي، وكان الفنانون وقتئذ قد سمحوا لأدوات صناعة الصورة ـ الفرشاة واللون والأشكال ـ بأن تعتِّم أو تشوِّه الموضوع مادة الرسم، فقد اكتشف الفنانون أن المواصفات الرسمية للرسم ممتعة بحد ذاتها.
إن أول فنّ تجريدي أنتجه فنانون صُنِّفوا ضِمن حركات مثل الفوفية والتعبيريَّة والتكعيبيَّة والمستقبليَّة، وقد سُمِّيت رسوماتهم بالتجريدية، رغم أنّ موضوع الصورة يمكن ملاحظته في أعمالهم. حذف بعض الفنانين بعد عام 1910م كل موضوع الصورة لأجل الأشكال المجرَّدة، وانبثق هنا دفاعان نظريان متميزان ومتضادان لفن كامل التجريد. عمل الروحيون انطلاقًا من الاعتقاد بأن عناصر الفن بإمكانها تحريك الروح مباشرة، وأن الرجوع إلى العالم المادي قد يعوق قدرتهم في نقل الرسائل العاطفية بصورة مباشرة وقوية، وكان على رأس قائمة هؤلاء الفنانين فاسيلي كاندنسكي و كازيمير ماليفيتش الروسيان و پيت موندريان الهولندي.
قامت النظرية الرئيسية الأخرى للفن التجريدي على المادية، فقد ظهرت أول مرة في أعمال الفنانين البنائيين في روسيا نحو عام 1915م، واهتم فنهم أساسًا بالجوهر والأشكال والألوان والأنماط، ورفضت رسوماتهم أسلوب الحكاية والشعر أو التجارب العاطفية، ولكي يُشَكِّلوا بإيجابية العصر الجديد وقاعدته العلمية، فقد أصروا على الأشكال الهندسية المسطحة والألوان غير المعدلة والمسعى المجهول نحو فنهم، وتشمل قائمة الفنانين البنائيين الرواد أليسيتسكي، وألكسندر رودشينكو.
كان مصطلح الفن التجريدي أساسًا مُضَلِّلاً، لأنه يمكن أن يعني الفن ذا المضمون المتحوِّر، لكنه لا يزال ملحوظًا، أو يعني الفن غير الرمزي تمامًا وغير الهادف. ومهما يكن من أمر، فقد استُعْمِل المصطلح في نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945م بصورة أولية، مرادفًا لمعنى الفن الخالي تمامًا من المادة أو الموضوع مدار الرسم.