ليليّات

ثقافة 2024/01/17
...

أحمد عبد الحسين
ازدراء الكاملين

منذ زمن بعيد كففتُ عن محبّة طالبيْ الكمال. مذْ عرفتُ أنَّ أعدلَ قسمةٍ قُسّمتْ للناس في حياتهم الوجيزة هي النقصُ، ومعه، بل في صميمهِ، معرفةُ أنَّ هذا النقص هو الاسم الآخر للإنسان. ولماذا؟ لأنَّ شرائع تلوَ شرائع استعبد بها الناسُ بعضهم بعضاً بدعوى نشدان الكمال والخروج من حدّ النقص والتقصير.

طلبُ الكمال خديعة. وأفواج مؤمنة ركضت بحبور إلى هذا الفخّ

منذ زمن بعيد عرفتُ أنَّ كلّ من يطلب مني أن أكون كاملاً إنما يهيئ قرباناً لإله لا وجود له؛ والذبيحة أنا.

قليلة، نادرةٌ كلماتُ المبشّرين الذين سعوا إلى أن يظلّ مريدوهم ناقصين، أي بشراً أسوياء.

في صباي البعيد قرأتُ في “بحار الأنوار” أنَّ جعفراً الصادق كان يدعو لخلّص أصحابه بهذا الدعاء الرحماني: “يا جابر لا أخرجك الله من النقص ولا التقصير”. فعرفتُ ما لا يعرفه إلا قليل. عرفتُ الفرقَ الدقيقَ، لكنْ العظيم، بين من يريد إنساناً ومن يريد ذبيحة.

في هذه الليلة الملأى بالليل، نجّني يا ربُّ من الرغبة في الكمال.

خلصني من هذا الشرّ! 


كلُّ ما أحببتُه

الآن، أعني في الهزيع الأخير من حياتي، أدركتُ أني أعيشُ بتلقائية ويُسرٍ كبيرينِ مع كل ما يستحيل فهمه. لم يأسرْ قلبي طوالَ حياتي سوى ما لا يَقعُ تحت إدراك، ولم يشغلني في الحقيقة إلا ما لا يُفهَم.

ها أنا أقلّب ذاكرتي ظهراً لبطنٍ فأكتشفُ أني ما أدركتُ شيئاً إلا وتركتُه، وما عرفتُ أمراً إلا وعافته نفسي. كأنَّ معرفتي لشيء ما هي تلويحةُ وداعي له.

هاربٌ مما أعرفه إلى ما لا أعرفه. هكذا قضيت حياتي.

عرفتُ الليل والنهار ولم أسترحْ في أيّ منهما لفرط وضوحهما. لكنْ تعال حدثني عما بينهما، عن المغيبِ والفجرِ حدثني، حيث لا ليلَ هناك ولا نهارَ، هناك حيث تكثر الظِلال ويستوطن الغموضُ وتمرحُ طليقةً أشباحُ ما لا يُفهَم. هناك موطني.

ويلومك اللائمون بعد ذلك أنك لم يبقَ لك إلا التفكّرُ بالله والانشغال بالشعر. فليكثروا اللومَ. لأنَّ الشعر والله وحدهما الجديران بأنْ تحملهما حسرةً معك إلى حفرتك.

الآن، في هزيعي الأخير أعلن:

كلّ ما أحببتُه لا اسم له.


بالمرصاد


أطفالٌ نحنُ، قامرنا بالسماءِ وخسرناها

غرباءُ، نودينا من جهةِ الذبح فتذابحنا ثمّ نودينا من جهةِ الندمِ فلم نندمْ

أقوياءُ لكنْ نرتعدُ من حفيفِ الأمومةِ في عباءةٍ سوداءَ

أنبياءُ، والأنبياءُ في غيرِ أوانِهم دمى محشوّةٌ بالثعابينِ

فلاحونَ، وإذا شئنا ملأنا الأرضَ بأشجارِ الزقّوم

متشابهون مثل طواويسَ في ليلةٍ مظلمة

غاضبون

ولكننا

بهدوءٍ نربّيْ الكلابَ التي ستنهشُ العالمَ.