مآب عامر
بعيداً عن شغف القراءة واقتناء الكتب وقريباً من اكتشاف الذات ومحاربة الوحدة والقلق.. هكذا عندما نفكر في العودة بالزمن إلى الوراء، ونعثر هناك على ذلك الشعور الذي دفعنا من دون أنْ نركزَ على أهدافه نحو الكتابة، نحو أول مرّة جادة في احتضان القلم والورقة، أول مرة جاءت بعد حادثة أو لحظة حزينة وربما شبح لخسارة أو دهشة محتمة أو لقلقٍ كان لا بُدّ منه كي نُغير مسيرة أفكارنا ونطلق أصواتها الحبيسة إعلاناً من ذواتنا عن التحول الذي قد يكون تدريجياً ولكنه أكثر خصوصيَّة واستقلالاً.
كما هي الحال بجوناثان سانتلوفر الفنان الذي حولته النار إلى كاتب روايات معروف بعد أنْ دمرت كل لوحاته أو بالأصح أحرقت عشرة أعوام من حياته الفنيَّة، وكيف سعى بعد هذه الحادثة أنْ يكتبَ رواية عن فنانٍ شهيرٍ كانت لوحاته داخل هذا المعرض الذي احترق بالكامل في محاولة ذاتيَّة لقول شيءٍ ما عبر الكتابة. من هنا أتساءل لو عدنا بذكرياتنا هل سنعثر على الشيء الذي دفعنا للكتابة؟
تعليب الزمن
ويتذكّر الناقد الدكتور نصير جابر تلك اللحظة تماماً، ويقول في مساء يوم بارد من العام 1986 حينما تجرّأت وكتبت على الورقة الأولى من دفتر سميك جداً (رواية) وبدأت أسطّر أحداثاً واقعيَّة سمعتها من جدي. حكايات حصلت معه قبل عقودٍ طويلة، ولأنّ جدي مات كان يجب أنْ أمسكَ بـ(الكلام) وما من طريقة إلاّ الكتابة.
ومن هنا وبسن الثالثة عشرة أدرك جابر أنّ الحل الوحيد لتعليب الزمن داخل فضاءٍ آمنٍ هو الكتابة. كما يضيف “فوحدها هي التي تتمكن من أنْ تجعل الأشياء: مكرورة من دون ملل، ومستعادة ومن دون رتابة ومعروفة من دون ضجر، لذا هي ستعود دائماً بنكهة أعمق في كلّ قراءة لأننا سنقرأ بهاجسٍ جديدٍ في كل مرة”.
ويرى أنّ الفقد كان الحادثة الأهم، قائلاً: “مات أبي وعمي وبدأت أصواتهم تغيب، وشيئاً فشيئاً تغيب ملامحهم”، موضحاً: “وما من جدوى في النظر في صورة ممهورة بختم استوديو سبعيني ومعلقة على جدار، كان يجب أنْ أكتبهم، أنْ أحرّك الضوء المثبت على الورق لأعيدهم للحياة في توثيقٍ لكلّ شاردة وواردة”.
الكتابة بالنسبة لجابر هي الحل النهائي لمشكلة الأزل، والخلود، وكثير من المشكلات التي تبدو مستعصيَّة “هنا على هذه الورقة ثمّة عالم يحنّط ويربط إلى نسق الجمل والنحو والصرف، لكنه عالم حيّ وارف محبّب.. هو عالم الورقة التي تغيّرك من دون أنْ تتغير. وأما شعورك أنّ ما تكتبه الآن هو أمام عينٍ تراه فتلك من اللحظات التي لا تفقد بكارتها أبداً مهما هتك العلن أسرار البوح الخفي”.
عزلة وضعف
تقول تبارك ناظم التي تعشق قراءة كتب أدب الأطفال منذ صغرها: “كان احتضانهم أقرب من حقيقة ميتة انتزعت يدها من ظلمة العالم”. وتضيف أنّ “أول قصيدة نثريَّة كتبتها في الصف الخامس من المرحلة الدراسيَّة لعام 2011 في جنوب العراق، وتحديداً عندما كنت بعيدة عن العاصمة بغداد وأبي”.
وبعد سنوات، تعود ناظم صدفة إلى الكتابة هربًا من عزلتها وضعفها، كما تقول: “لقد كنت في حيرة من أمري في التفكير آنذاك”.
شاركت ناظم في كتب مع مجموعة من المؤلفين لمجاميع قصصيَّة، وكتابين أيضاً لمجاميع مشتركة للشعر. وتتابع: لقد كنت أصغر شاعرة مع أسماء كبيرة من اتحاد الأدباء والكتاب في العراق.
وتقول: ها أنا عدت لكتابة عمود الشعر.. وخطوتي الأولى والحقيقيَّة على أرض الواقع كشاعرة كانت في نهاية عام 2021، عندما تمّ قبولي في مسابقة سوق الشعر الدوليَّة في المعهد الفرنسي ومعهد غوتا الألماني في بغداد من بين 8 شعراء من أصل 90 مشاركاً تقريباً”.
وتشير إلى أنه وبعد ذلك فتحت لي الفرص للمشاركة في أمسيات شعريَّة في أماكن ومهرجانات أدبيَّة مختلفة، منها مهرجان المحبة والجمال الموسم الرابع في البصرة الفيحاء.
الشعر امرأة
أليونورا تركبُ عرباتِ الغياب،
شغولةً بأياب البنفسج الحالم
ممتنةً لصهيل الثياب وعبقريَّة
الازرار وهي تفتكُّ بالشقرةِ على اناء الجسد
نامي ايتها الخجولة البتول
وافتحي للعشب باب النهر
افتحي للنهر باب المطر
افتحي للمطر باب الوطن
افتحي الوطن لأطفاله المساكين
نامي أليونورا.. نامي).
بهذا النص الشعري بدأ الشاعر علي فرحان حديثه وهو يقول: كثيراً ما أدركتُ أنّ الشعر امرأة، وهكذا تعرفتُ عليَّ في أول مرّة، حين بزغتْ إحداهن في دروب المدينة الصغيرة، كانت جميلةً بشكلٍ غير مفهوم، والذباب الذكوريُ يتفاقمُ على خط سيرها من البيت إلى مدرستها المتوسطة. لم أكن وسيماً ولا أنيقاً.
لكن الكلمات كانت دريئتي وقتئذ..
قُلتُ لها إنّكِ قارة ثامنة وسوف،
قُلتُ لها الجهات ستٌ لك وحدكِ .
ويضيف فرحان: كثيرٌ من الجنونِ كان لذيذاً معها، وهي تذوّبُ ثلج الصباحات وتجعلني أستحمّ في نعمة الفيض الشمسي: (مهدتْ / لأجنحتي سماءً لا تحكمها نجومٌ مراهقة/ ومهدتُ سماءً تتسعُ لأجنحتها / بنوافذ مفتوحة/ على قصيدةٍ تمضي مع النهر والعشب).
المرأة بحسب فرحان هي بنتُ قصيدة ما، هذا ما تعرفت عليه حين تباغتني بنداء حضورها وندى إشراقها العميم. وبعد هذه السنين وبعد فقداناتٍ لسعن الروح بالوجد أستشعر طعم الأنثى بحروفٍ بقين يلهثن في حياتي كطياراتٍ ورقيَّة تأخذُ الأسرار إلى موجاتٍ تمضي مع الريحِ.. وإلى أين؟ أمشي متعثراً بقوافٍ مجعدةٍ كروح الشاعر تقتفي امرأة تركت القصائد مزدهرةً خلفها.. خلفها ولها.