قرابين لطخت بدمها بوابات الحريَّة التي ننشدها

ثقافة 2024/01/18
...

  طالب عبد العزيز

 قبل ثلاثين سنة جاءني صبيٌّ شاكياً ابني الذي كان بعمره، مدعياً بأنه ضربه، وحين تقصيت الأمرَ عند ابني لم يتبين لي منه عدوان على أحد، ولما طرق الباب والد الصبيِّ المشتكي غاضباً، اقسمت له بالله بأنني استعلمت وتيقنت منه، ولم يكن معتدياً على ابنك، فما كان منه إلا أن قال: ما أنت والله والقسم به، أنت شيوعيٌّ كافر. تذكرت هذه وأنا أتصفحُ ديوان صالح بن عبد القدوس البصري، الذي قتله الخليفة المهدي بتهمة الزندقة، ولم تشفع عنده حتى قصيدته المعروفة بالزينبيَّة، ولا قوله: (فعليك تقوى الله فالزمها تفز/ إن التقيَّ هو البهيُّ الأهيبُ/ وأعمل بطاعته تنل منه الرِّضا/ إن المطيعَ له لديه مقرَّبُ).

ضمن الصورة القاسية المنتهجة في الحياة العربيّة الإسلاميّة منذ قرون، أصيبت الثقافة بمقتل وجودي، وتحت يافطة الكفر والتشيّع والاعتزال والزندقة والهرطقة والتصوّف والثنويَّة والجهميَّة وغيرها تمت تصفية العشرات من الأسماء الكبيرة، ووئدت المشاريع الأدبيّة والفكريّة، وبذلك خسرنا الوجه المشرق في أدبنا وثقافتنا بعامة، ولم يبقَ منه إلا ما كان ممهوراً بختم رضا الخليفة، والوالي، والزعيم، وبسبب من ذلك شوَّهت الأفكار، وانحرفت المضامين، وزحزحت المقاصد.
ومؤسف أنْ نقول: قليلة هي القراءات التي تقصَّت الحقائقَ، ووقفت على الأسباب، وخلُصت إلى النتائج، ففي الوقت الذي أتهم فيه صالح بن عبد القدوس بالزندقة من قبل الخليفة، نجده مقدَّماً ومظلوماً عند الشيعة، وعند المتأخّرين من المحايدين والمنصفين. هو مع العشرات من أقرانه مشاريع ثقافية حقيقية، بحاجة إلى تسليط الضوء عليها، وإعادة انتاجها بوصفها قرابين، لطخت بدمها بوابات الحرية التي ننشدها اليوم.
يتحدث رواة تاريخ الشاعر عن مذهبه فيقولون بأنّه كان على مذهب الثنويَّة، القائم على تعدد الآلهة، والقائل بأزليَّة النور والظلام، وإنَّ أبا الهذيل العلّاف ناظره فقطعه، ثم قال له على أيِّ شيءٍ تعزم يا صالح؟ فقال: أستخيرُ الله، وأقول بالاثنين. لكنَّ ذلك لم يلقَ بالاً عند القوم، مع أنّهم وجدوه يصلي بصلاتهم، في ركوع وسجود، غير أنّهم قالوا له: لكنَّ مذهبك معروف عندنا!! ولمّا لم يجد سبيلاً لمنجاته منهم قال: «سنَّة البلد، وعادةُ الجسد، وسلامةُ الأهل والولد».. هكذا، في محنة لا يعرفها إلّا من كابدها.
الرعبُ الذي عاشه صالح بن عبد القدوس والعديد من أقرانه يحيلنا إلى الرعب الذي واجهناه جرّاء التهم التي لفقت إلينا في حياتنا، من الحكّام والغلاة، وتستفزُّ فينا الحجج والذرائع، التي ما زلنا نستعملها يومياً، في البيت والشارع والمؤسسة، مع الذين لم يبلغوا غاياتنا في الفكر والدين والمنطق.
الشاعرُ والمفكر وسواهما من المشتغلين في حقول المعرفة مخلوقات مختلفة، لا ينبغي محاسبتها على باطن القول، بل، ولا على المعلن منه، هناك كونٌ لا يقاس بما في بطون الكتب، هو فوق ما يقال بأفواه الولاة والخطباء والقضاة. لمّا أراد المهدي قتله على الزندقة رمى إليه بكتاب، قال له: اقرأ هذا، قال وما هو؟ قال: كتابُ الزندقة. قال صالح: أو تعرفه يا أمير المؤمنين، إذا قرأته؟ قال لا. قال أفتقتلني على ما لا تعرفْ؟ قال فإني أعرفُه، قال صالح فقد عرفته، ولستُ بزنديق، وكذلك أقرؤه ولستُ بزنديق.. لكنَّ مشروع القتل كان قائماً.
قبل قتله وصلبه على أحد الجسور ببغداد تنكَّرَ بن عبد القدوس، تحت اسم صالح بن جناح، هارباً إلى دمشق، ولم يشفع له فقدان بصره، وبلوغه العتيَّ من العمر. فأتلفت قصائده، واستولى شعراءُ آخرون على شعره. لم تكن أسباب قتله مجتمعة بجرأته في الإفصاح، بما كان يمورُ برأسه من تمعّن وتفكير بأسرار الوجود، بل كانت نتيجةً لتمجيده العقل، والاستخفاف بآراء رجال الدين آنذاك، تلك محنته التي اشترك فيها مع ابي العلاء المعري في اللزوميات، فهو الذي قال قبله: (أنستُ بوحدتي ولزمتُ بيتي/ فتمَّ الصَفوُّ ونما السرور/ وأدَّبني الزمانُ، فليتَ أنّي/ هُجرتُ، فلا أُزارُ ولا أزورُ/ ولستُ بسائلٍ، ما عشتُ يوماً/ أقامَ الجُّندُ أمْ نزل الاميرُ).
 (الزينبيَّة) أو (بائيَّة صالح بن عبد الحي هي أشهر قصائده، والتي ينسبها بعضُ الرواة إلى الإمام عليٍّ، لما تحتويه من مواعظ وحكم وتأملات: (صرمتْ حبالك بعد وصلكَ/ زينبُ/ والدهرُ فيه تصرُّمٌ وتقلُّبُ) وله ينسب البيت الذي مازالت ترددهُ الخاصَّة والعامة: (ذهب الشبابُ، فما له من عودةٍ/ وأتى المشيبُ، فأينَ منه المهربُ).
وهي بحق، واحدة من أجمل ما يمكن ذكره في شعرنا العربي، فقد ابتدأ متغزلاً كدأب الشعراء المخضرمين، هو الذي عاش شطراً من حياته أيام الامويين، قبل أن يقتل على يد الخليفة المهدي العباسي. هذا الشاعر الذي راح يقلّبُ أحوال الخلق، ويترصّد مفاصل حياتهم، ناصحاً مرةً، ومحذراً أخرى، ومتناولاً أدق معاني الإنسانيَّة، في درس أخلاقيٍّ، دنيويٍّ وأخرويٍّ، قلما نجده عند شاعر آخر.  
يقرَّبُ الشاعرُ المنتظِرُ على باب الخليفة، ويمنحُ المال والأعطيات، ويتحول آخر الى قرّاد، يرّقصٌ قصائده في مديح هذا وذاك، لكنْ يلقي صالح بن عبد القدوس مصير الفلاسفة والحكماء اليونانيين، فسقراط يعدم، ويقول أفلاطون الذي لم يشهد لحظة إعدامه: «كلُّ الفلسفة تمرينٌ على الموت». لكن المستبد ديونيسيوس يستاء من أفكار أفلاطون ويخشى من خطرها على المجتمع، فيأمر ببيعه في سوق النخاسة، ليموت بغصة الإذلال والاهمال. وهكذا، كان حال بن عبد القدوس، وقد نأى بنفسه عن هذا وذاك. فهو لا يحضر مجلساً لا يجدُ أقرانه فيه.
يعدُّ صالح بن عبد القدّوس أحد مؤسسي علم الكلام في البصرة، فهو واحد من ستة، هم أصحاب الكلام قبل ظهور المعتزلة، الذين دخل مجلسهم الشاعر بشار بن برد، منتظماً في مدرسة واصل بن عطاء العظيمة. وكنتيجةً طبيعيَّةً لما لاقاهُ لم يصلنا من آرائه ومناقشاته ونثره شيءٌ كثير، إلا ما كتبَ بأقلام أعدائه عنه، بحسب عبد الله الخطيب، جامع وشارح شعره.