فرحان الخطيب.. بلاغة شعريّة البراءة

ثقافة 2024/01/21
...

  هويدا محمد مصطفى

حينما يقرأ الشعر أولا من خلال انفعالات المتلقي لحظة مواجهة الورقة يسكبُ أريجه الفواح في اهتزازات اللغة وأصوات الحروف التي تمشي في أوردة النصوص، وتلقي مجتمعة بالاستمتاع الذي يجمع المعاني وما تحمله من رموز حسيّة ونفسية، حينها سندرك أننا نقرأ لشاعر متفرّد بلغته وله بصمته الأدبيّة في المشهد الشعري والثقافيّ، يكتب القصيدة ويعبّر حقول ألفاظه لترتدي لغته ثوبها الرشيق معلنة نضج الذوق وفيض العاطفة وثراء الصور، شاعر يستطيع أن يجذبك إلى نصه. 

فرحان الخطيب الذي كتب للطفولة بلغة شفيفة يعد موسوعة أدبيّة غنيّة صدر له {نواقيس الضحى}، {ظل في الصحراء}، {مر الهوى}، {أتيت إلي}، {بوح ليس إلا}، {فيض قلب}، {صهيل في مرابع الدم}، {جراحات المطر}، {تعال ياقمر}، {أغنيات سيف وجولي}، فضلا عن الكثير من الدراسات النقدية. 

*حدثنا عن بدايتك وتجربتك الأولى؟

-  لصَباحاتِ قريتي "شعف" نسيماتٌ ضحويّة مائجة ضوّاعة، كانت تُمايلُ أزاهير بداياتي الشعرية، فتُوثّبها طيوراً محلّقة حوّامة، ومهاراً جموحة تتقافز فوق سهول ومروج موهبتي البدئية إيقاظاً وإغواءً، فتألفتُ الطبيعة وجوّانيتي الغضّتان في إبداع طفوليّ لاهٍ حيناً، وطامحاً أحياناً، لأن أكون ذاك الشاعر الذي أرغب وأحب، فأقف بين يدي أبي وأمي لأنشد لهما الأشعار الجميلة، وأنا كلّي هيامٌ بهذا الكلام المموسق والمرصوف والمتقن الشكل، لأنْ أكون صانعَه يوماً، فكان البيت والبيتان وبعض قصيدة، وما أن دخلت الثانوية حتى أصبحت شاعر الصف والأصدقاء، بل المدرسة، وفي الجامعة كان ديواني الأول "نواقيس الضحى" يصدر مع تخرجي، أمّا النقد عندي، فهو قراءات انطباعية أملتها ذائقة شاعر، لما يكتبه الشعراء الأصدقاء، وما يحرّك فيّ ساكناً تجاه الجمال والدهشة وعذوبة الشعريّة عند قائلها. 

*الشعر يحاول المرور بين متعاركات الحياة، بكل تناقضاتها، ماذا تقول في ذلك؟

- الشّعر حمّالٌ لكل وجوه الحياة بمنعرجاتها العجيبة، فهو فوّاح بالمحبة والغزل، وموّال حزن بالنّائبات، ولعبةٌ جميلةٌ لطفلّ صغير، ورصاصةٌ في صدر أعداء الوطن، هو كل هذا بشرط أن يكون شعرا.

*بمن تأثرت من الشعراء، وكان لهم بصمة في عالمك؟

- كان مثلي الأعلى بيت الشعر الجميل، من العصر الجاهلي حتى الآن، ولم أخف إعجابي بالمدهش بما مرّ من شعر شاهق المبنى، ومكتنز الصورة، وطليق الخيال، ولمّاح المقصد، وخاصة بالشعر الذي يثري حداثتنا من جذور أصالتنا الضاربة في عمق التاريخ، إنها عجينة تليق وقتنا الراهن.

*كيف يمكن للأديب أن يكون مؤثراً وصاحب رسالة، ومن يحدد ذلك؟

-الشاعر ابن مجتمعه، وهو عيونه ونبضه وصوته، فإذا كان جيّاشا بهذه المشاعر الجمعية، مع إبداعه الخلّاق الذي ينضح ماءه من خوابيهم، ويعلق زهور معانيه على شبابيكهم، فلاشك أن شعره سيكون محط اهتمام الناس، وموضع تقديرهم واحترامهم.

*قصيدة الطفولة.. هل هي باب الأمل، صف لنا شعورك؟

-  أصبح طفلاً صغيراً ألوّن نجم السّماء، والكتابة للأطفال مهمة شاقة، تحفّها الحساسية العالية، والذوق الرهيف، واللفظ الشّفيف، ولها خصائصها التي لا تتوفر إلّا للقلّة، وهو صعوبة ماتعة أن تغدو طفلاً في سويعات كتابتك للطفل، أزعم أني أفعل ذلك، حاولت في ديواني "تعال يا قمر" و "أغنيات سيف وجولي"، ومازلت أحاول تجسير المتعة الطفولية مع القصديّة الجادة، وذلك منذ أول قصيدة كتبتها للأطفال، لابنتي "مرح". 

 *هل الشعر موهبة أم يمكن اكتسابها بالقراءة، وماذا عن شروط الكاتب؟

- عبر التاريخ الشعري وعند كل الأمم كما اعتقد، لم تظهر الشاعرية إلّا عند من أوتي موهبّة خلّاقة، أي أنّها قادرة على الخلق والإبداع، وإلّا كان كلُّ المختصين في دراسة الأدب والنّقد شعراء، وهذا لم يحدث، فالموهبة هي الأساس الذي تبنى عليه الشاعرية، والمترافقة مع الصقل بالقراءة والمثابرة والتجريب والإطلاع.  

*ماذا قدم لك الإعلام في الشعر أو النقد، هل تشعر بأنه أنصفك؟

- لم يَدُرْ بخلدي أن أكتب، لأن يكتب عني الإعلام، ما أعرفه تماما على الشاعر أن يجتهد ويبدع ويتجاوز ذاته دائما، عندها لابد وأن يقرب منه الإعلام ليتحدث عن تجربته، وأنا رافقتني وسائل الإعلام منذ بداياتي، صحفاً ومجلات وبرامج تلفزيونية ثقافية كثيرة، ونقاد أيضاً، فقد مرّ على تجربتي الشعرية أكثر من خمسين دارساً وناقداً، وكتبوا عنها، وقد أعدّت الأديبة والإعلامية رنا سلوم كتابا بهذه الدراسات وقدمته بعنوان "جلنار الكلام" وأيضا حاورتني كل الصحف المحلية السورية، وصحف عربيّة من دول  متعددة، أستطيع القول إنّ الإعلام متابع لي ولم يقصّر معي.

*هل تكتب للنخبة أم لعامة الناس، وكيف تبدو لك قصيدة النثر؟

- أكتب أناي في شعري، وما تجوسهُ من هضاب اجتماعية ومجتمعية شواسع، وأيضاً ما تتوجسه  وتراه في أحوال ناسي الذين أنا منهم، وهم كياني الأدبي، ووطني الذي أنتمي إليه، وفي بلاغة القصيدة وفنّيتها لا يطال البعض أغصانها العالية، وبعض الأحيان لابدّ وأن تكون القصيدة حديقة غناء لزائريها، أو حقل قمح لجياعها، فيرتادها الجميع .

وقصيدة النثر منذ أن أخذت مكانها ومكانتها، في نهاية القرن العشرين، وبعد ترجمة كتاب الناقدة الفرنسية سوزان برنار في توصيف قصائد بودلير، طمح بعض الشّعراء العرب للخوض في هذا الميدان، وكتب بعضهم نثراً شعريّاً جميلاً كالماغوط وأنسي الحاج والبياتي ونجحوا في إرساء دعائم قصيدة النثر، أنا لحد الآن لم تعجزْني قصيدتنا الخليلية عمودية أو تفعيلة، لأذهب إلى قصيدة النثر، ولكن وبآن معاً، تدهشني القلّة منها، والقلّة ممن يكتبونها، وقد كتبت عن بعض شعراء النثر بإيجابية واضحة.

*حدثنا عن اصداراتك الأخيرة والمعارض التي شاركت فيها؟

- بعد ثمانية دواوين شعريّة أخرها "فيض قلب" سيصدر قريبا أربعة كتب وهي "بوابات المعنى"،  ويتضمن قراءات انطباعية في قصائد ودواوين شعرية، وأبدو في هذا الكتاب ناقداً انطباعياً حلل ودرس ونقد بذائقة شاعر، والثاني ديوان شعري تحية لأهلنا في غزة وفلسطين " صهيل في مرابع الدم " كتب مقدماته ثلّةٌ من الأدباء والشعراء الكبار، د . حسن حميد، صالح هواري، أحمد علي هلال، محمد شريم، تغريد بو مرعي، سامي مهنا، والكتابان صدرا عن دار "فكر للنشر والتوزيع" في مصر، وأيضاً ديوان شعر للأطفال "أغنيات سيف وجولي" وديوان شعر "جراحات المطر" قدّم له الأديب والناقد المغربي عبدالله علي شبلي، والديوانان يصدران عن دار "يسطرون للطباعة والنشر والتوزيع" في مصر أيضا، وستشارك هذه الكتب الأربعة في معرض القاهرة الدولي للكتاب هذا الشهر في مصر، وآمل أن تلقى اهتماما من قبل القارئ العربي، كما ولي مشاركة في ديوان "طوفان الأقصى" مع عدد من الشعراء العرب، أعدته وترجمته للإنكليزية الأديبة تغريد بومرعي من لبنان، وديوان آخر مع عدد من شعراء العرب بعنوان "في رحاب الأقصى" إعداد وتقديم الشاعر ناصر رمضان من مصر، والكتابان مشاركان في معرض القاهرة.

* كيف ترى العلاقة بين القصيدة والنقد؟

- عنونت مقدمة كتابي النقدي "بوابات المعنى" بكلمة "لست ناقداً"، وهذا يعني لست ممن احترف النقد وعمل به منظراً، بل هي ذائقة شاعر تكشف عن مواضع الزهر الشارق  في أكناف أشجار القصائد، والإبداع سابق للنقد، ولكن النقد هو السابر لجماليات هذا الإبداع، والكاشف عن مثالبه، والنقد يقع الآن في مطبات كثيرة، أهمها العلاقة بين الناقد والمبدع والتي ينجم عنها أحكاماً مائلة، والمبدع الحق هو من توغل في غابات النقد، وعرف شعابه، وفتح مغاليقه وأبوابه، وبنى قصيدته بناء ذا مكنة عالية، فيصبح عندها ناقداً لنفسه، بنّاءً لشعره، ما يمنع عنه الخلخلة والتّصدع.

*اختيارك للعناوين متفرد ومتميز، برأيك ماذا يقدم العنوان للقصيدة أو للكتاب؟

-تكمن الإجابة عن هذا السّؤال، في السؤال ذاته، وقد ألفت كتب حول أهمية العنوان، واعتباره العتبة النصية الأولى لمتن القصيدة أو الكتاب، والولوج منه لابد وأن يثير المتلقي بدرجات متفاوتة من حيث علاقته بالمتن، وقد ذهب بعض النقاد إلى اعتباره جزءاً مهما من النص أو الكتاب المدروس، رمزاً وإيحاءً واستسراراً واستشرافاً، وأنا أبذل جهداً في انتقاء عنوانات كتبي، وأرجو أن أكونَ موفقاً فيها.