علي لفتة سعيد
يشتغل الفنان محمد حاتم في لوحاته على معنيين يرتبطان بشكل وثيق بإنتاج المعنى، أوّلهما القدرة على ممازجة الخطوط وفراغات اللوحة، والثانية منح الفكرة هطولها اللوني ليكسب دهشة المتلقّي الذي سينظر بإمعان الى العمل على أنه ممازجة بين القدرة البصريَّة له، وبين محاولة فكّ رموزه، وخاصة وأن حاتم يتنوّع في أفكاره وكأنّه يصطادها، ومن ثمَّ يضعها على اللوحة في عملية تبويبٍ مساري، تبدأ من أعلى اللّوحة إلى أسفلها مروراً بجانبيها.
فما بين امتلاء اللّوحة بتحشيد الألوان حتى يخال أن المتلقّي يرى قوس قزحٍ يرقص على أنغام الفرشاة، إلى حركة الشخوص المرسومة بطريقته المعبّرة عن معاني الوجود في هذه الحياة، وما بين المخيّلة اللونيَّة التي تعبّر عنها الخطوط التي لا نقصد بها المستقيمات أو المنحنيات، بل هي حركة الفرشاة على اللوحة، وبين ألوان تسبح في محيط الرؤية البصريَّة حتى يكاد المتلقّي يراها تتحرّك معه، وما بين الرسوم التي لا يريدها واقعيَّةً، لكنها ممتلئةً بالإحساس اللوني، فيرسمها على شكل زقّوراتٍ أو على شكلٍ مخروطيّ للتخلّص من الخط الواقعي أو الانطباعي، وإعطاء الشكل مساحةً غرائبيَّة، لتكوين أشكال متشابهة لكنها غير متطابقة.
الفنان حاتم يوزّع الفكرة الشفاهية على مكوّنات اللوحة، وكأنه يهندس المبنى اللّوحي بمعماريات لونيّة، فيضع هذا اللّون هنا، وذاك الشكل هناك، ويقسم المنحنيات والمربّعات وحتى تقاطع الخطوط، يملأ اللّوحة كي لا يدع للفراغ صمتاً، حيث يترك نطق المعاني على المتلقّي. ولهذا فإنّه يسير باللوحة إلى جعل الألوان هي التي تتحدّث نيابة عن الفكرة، فتكون ليست متمركزةً باتجاهٍ واحدٍ، فهو يتنقّل ما بين الموروث والحداثة، مثلما يتنقل داخلهما بين أن تكون اللوحة عبارةً عن ألوانٍ مدهشةٍ لها أشكالٌ لونيَّةٌ هندسيَّةٌ، وبين اقتباسٍ حياتي، ليكون المكان مؤثّراً في الناحية الشكليّة، ومن ثمَّ الإزاحة المعرفيَّة لمكوّنات المكان لدى المتلقّي العارف بحيثيات الفن التشكيلي. فهو لا يتوانى من مزج التاريخ بالحداثة داخل اللوحة ذاتها. فهو يضع الحرف المسماري بطريقته الخاصة غير الاستنساخية الى جانب الخط اللوني التي يشكّله على شكل دوائر حداثوية أو مربّعاتٍ منسجمةً مع شكلها غير المربعاتي والذي لا يقترب من ناحية الخطّ الى المثّلثات والعكس صحيح بالنسبة للخطوط المثلّثة التي قد يراها المتلقّي على شكل حرف مسماري أو يراها على شكل كرةٍ مليئةٍ بالحروف والاشعارات كبركانٍ هائلٍ من التحشيد اللوني الذي يحلق فيه الى سماء اللوحة وكأنّه يجعل منها طائراً لونياً بخطوطٍ منسجمةٍ مع حركة الطيران، وإن لها جناحين من بهرجٍ يمازجها اللونين الأحمر والأزرق في الكثير من اللوحات، وكأنها أيّ اللوحة تريد الانعتاق بحركة الجنين الى الأعلى. وهي مهمّةٌ تبدو تخليقيّةً من خلال رسم العلاقات الوثابة والقارّة إن صحّ التوصيف، بين الحركة واللّون من جهة واللّون والفكرة من جهة أخرى. فهي محاولةٌ لرسم هذه العلاقة التي تريد استنطاق المعالجة الشفاهيَّة للفكرة عبر تحويلها الى لونٍ يتمازج مرّات بتدرّجاتٍ لونيّةٍ ومرّات بتقاطعاتٍ لا يتقنها إلّا من فهم اللعبة اللّونيّة، مثلما أبدع في خلق الحكاية داخل الفكرة، ولهذا نجد لوحته وكأنّها تخاطب عقل المتلقّي الذي لديه القدرة على تمييز اللون وفكّ الخطوط، وهي مهمة بناء العلاقات التي تأخذ ثلاثية الأبعاد:
الأوّل: هو البعد التشكيلي اللوحة بشكلٍ عام والتي هي المشهد الكلّي الذي يعرض أمام المتلقّي.
الثاني: هو البعد الفكري الذي تعطيه الخطوط الحركية لفرشاة الفنان من أجل وصول الانطباع الى حالته التفكيريّة، ومن ثمّ التماهي مع المراد من تجميع ما وزّع على اللوحة من أفعالٍ وأشكالٍ سواء كانت أسطوريّةً أو تاريخيّةً للمكان أو واقعيّةً للشخوص.
الثالث: هو البعد اللّوني الذي تزخر به اللوحة، وهي التي تقود الى حتميّة المصاهرة الكلية بين البعدين السابقين حين يقوم المتلقّي برسم العلاقات أو على الأقل بجمع ما يمكن جمعه من فكرة اللوحة.
إنَّ هذه الأبعاد تكون هي القصديَّة الكبرى لمحاولة التأويل التي تحتاجها اللوحة، فالفنان يرسم بطريقتين أو لغايتين مهمتين ترتبطان معاً بكاثولكيّة الترتيب الفكري للوحة الواحدة، ومن ثمّ لمجموعة لوحات تخرج من عندياته.
الطريقة الأولى: هي التي توجّه الى المتلقّي الفاهم بحيثيات الفن التشكيلي، ويكون قادراً على لملمة شتات اللوحة أو تفكيك مفرداتها الى أجزائها الصغرى، وهي مهمّة تكاد تكون سهلة لهذا النوع من المتلقّين وأغلبهم من محبّي الفن التشكيلي ومنتجيه.
الطريقة الثانية: هي التي توجّه إلى المتلقّي المتذوّق العادي الذي يضع له المنتج كمية الألوان بخطوطٍ فنيّةٍ تحمل الدهشة، فتجعله ينظر لها بعمق الانبهار، وربما يضع أسئلته الخاصة المتأتية من حلقات الألوان من دون أن يرسم له متاهات التعريف بالأدوات او بما تحتويه اللوحة. فيمكن له أن يميّز الحرف المسماري من اللون الطائر ومن الشكل النسائي أو العيون التي تشكّل فراشات بيض لونيّة، مثلما يجد الصراع الإنسان في وجوده عبر تشابك الخطوط التي يتركها في الكثير من الأحيان بلونها الأسود أو التشابك الاجتماعي عبر مسك الأيادي لشخوصٍ يتبادلون أدوار الألوان القزحيَّة، وكأنّها ظلالٌ تتحرّك لرسم معاني المتلقّي الذي يشعر أنه المقصود بهذا التشابك أو التماسك، وبهذا الطريقة نجد أن اللوحة لدى حاتم تنبني على أساس الفكرة وليس على التكرار، رغم أن الأدوات واحدة، إذا ما أراد مناقشة الصراع الأسود أو الواقع الأصفر، أو الحلم الأزرق المطرّز بالأخضر، كأنه يسعى للاخضرار عبر العلاقات التي تسوّر اللوحة من زواياها الأربعة.
حاتم لا يستكين، الفكرة هي التي تحدّد مسار الخطّ واللّون. فهو يجنح الى رسم المكان الواقعي، من خلال القباب الذهبيَّة والبيوت المحيطة، فتبدو نوافذ الشناشيل صارخة الترابط. المكان الواقعي يحتاج الى إعطاء العلاقة بين الواقعية والتشكيل اللوني لمنح الصورة غايتها والقدرة على التأويل الكلّي.
ولهذا يمكن تلخيص تجربته بنقاط عدة:
الأولى: يرسم على ضوء فكرةٍ سواء كانت هائمةً في المخيلة، أو مرّت بالشفاهية لتوأمة اللوحة والفكرة.
الثانية: يريد توزيع الألوان، بل الى خلق عوالم خاصّة به لا تخرج عن مفاهيم المتلقّي.
الثالثة: يرسم واقعيته بطريقة التشكيل الحديث، ويرسم التشكيل الحديث بروح الواقعيَّة، فالمكان لديه ليس غريباً سواء كان مدينةً أو قريةً أو حتى مكانٍ أثري أو ذاكراتي.
الرابعة: يرسم بمهارة المتقّن للفن والفاهم لما يريد، لذا تكون اللوحة لديه ناطقة بالمعاني.
الخامسة: يرسم لتخليق اللون وجعله المسار الكلّي للخطوط التي تشكّل اللوحة ومعانيها وملامحها.
السادسة: يرسم لبناء العلاقة التوأميَّة بين الفكرة واللون من جهة، واللوحة والتأويل من جهةٍ أخرى.