كيف يكافح الفنّ الدكتاتوريات؟

العراق 2019/05/21
...

فداء سبيتي*
خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، كان للفنانين التشكيليين في أوروبا عامة وألمانيا خاصة أثر كبير في أرض المعركة. تجلى هذا الأثر من خلال عرض التفاصيل الحربية اليومية وتدوينها بالريشة والقلم وما تيسر من أدوات فنية، لصناعة لوحات تشكيلية تمثّل الواقع حيث يجري الحدث الحربي.
كان من بين أهداف الرسامين، الذين كانوا في بادئ الأمر متحمسين للقتال والتغيير من خلال حمل السلاح ومماشاة الحرب الأولى، أرشفة الأحداث وتأريخها بواسطة اللوحة الفنية كما لو أنها يوميات مدوّنة، تعرض أهوال الحرب وتقنياتها الحديثة التي فاجأت الجميع وفاقت كل التوقعات حينذاك. 
في ألمانيا وأوروبا جاءت الحرب العالمية الثانية لتمنح هؤلاء الفنانين قدرة على التعبير عن آرائهم السياسية تجاه كل ما يحدث، فكانت أعمالهم الفنية تنبع من هوية وثقافة ووعي سياسي متجدد تجاه الأفكار النازية والفاشية التي انتشرت قبيل وخلال الحرب الثانية والتي طاولت إنسانية الإنسان وحريته وكرامته وعيشه اليومي، والتي طالت بطبيعة الحال النتاج الفني والثقافي والاجتماعي بكل أنواعه وتلاوينه. وكان الفنانون الذين عايشوا الحرب الأولى الكارثية يحاولون دفع الحرب الثانية ومنعها من الوقوع. ولكن أنّى للفكرة المنيرة أن تقف في وجه ظلام الحروب وأسلحتها الفتّاكة. 
تمت ملاحقة الفنانين في جميع أنحاء أوروبا من قبل الأنظمة الديكتاتورية الصاعدة وأجهزة مخابراتها العسكرية والمؤدلجة ضد كل أنواع الفنون السابقة، ومنع الفنانون من ممارسة عملهم، واستولت تلك الأجهزة على معظم أعمالهم وتم احراقها أو إخفائها في عتمة المستودعات تحت الأرض، هذا عدا  الاعتقالات التي طالتهم والتعذيب والقتل اللذين ذهبا بأكثرهم موهبة وأشرهم نضالا في سبيل وقف الزحف الفكري النازي ومنع وقوع الحرب الشاملة.
 
من الرايخ الى الديمقراطية
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى تلتها ثورة تشرين الثاني نوفمبر 1918 التي أدت الى نقلة تاريخية نوعية في سياسة البلاد. اذ انتقلت المانيا من حكم الرايخ اي حكم القياصرة الى نظام الجمهورية الديمقراطية أو ما عرف حينها بجمهورية “الفايمر”. الا انه وبعد استلام الحزب النازي للحكم في عام 1933 تدهورت الجمهورية الديمقراطية وحلّت مكانها الديكتاتورية وعلى رأسها هتلر وأتباعه. هذه الحقبة كان لها تأثير سلبي كبير على الحياة الثقافية والفنية وعلى الفنانين بطبيعة الحال.
كان للحزب النازي أيديولوجيا سياسية خاصة وكذلك أيديولوجيا فنية متدرّجة من الفكر السياسي، وقد أصابت بظلاميتها كل أنواع الفنون وعلى رأسها الفنون التشكيلية، من الرسم إلى النحت، ثم المسرح وكل فروع الأدب من الرواية والشعر وغيرها.
 
بين الراقي والمبتذل
قام النازيون بتصنيف الفن ما بين الفن الراقي والفن المبتذل او الخبيث. الأول هو الفن الواقعي الذي يعرض مضامين جمالية مثالية ومواضيع اجتماعية تحثّ على العمل الاجتماعي وتبرز مثاليات إنسانية تليق بالمواطن الألماني – بحسب الفكر النازي – وهو العرق الجرماني الأسمى بين البشر بحسب رأيهم. والثاني هو كل ما عكس الأول من الفنون المعاصرة (الحديثة) ومدارسها التي سادت حينها وهي الفنون التكعيبية والتعبيرية والتجريدية على سبيل المثال وليس الحصر. وهذه مدارس كانت قد نبتت من تراب الحرب العالمية الأولى وظلاميتها ومآسيها والتطور الفكري الذي ينبذ كل أنواع العنف البشري.
ان عبارة الخبث التي أسقطها النازيون على الفن الحديث تنحدر أصلا من علم البيولوجيا والطب وتقارن بالخلايا الخبيثة. ويعود تداول هذا المفهوم الى عام 1892، وهو يعتبر ان  الفنون تحتوي على عناصر بيولوجية ويجب تصنيفها ما بين خبيث اي مريض وصحيح اي معافى. لذا طال هذا المفهوم كل عمل فني يعالج مواضيع سياسية نقدية, او يعرض اشخاصا ليسوا من العرق الجرماني كالغجر مثلاً.
بدأت هذه الحملة مع بداية الحكم النازي في العام 1933 اذ نظمت معارض في عدة مدن اوروبية نددت بتلك الأعمال الفنية بوصفها “منحطّة” كما بالفنانين كمخربين. الا ان قمة الحدث كان في معرض ميونيخ في العام 1937 الذي اعتبر من أكبر المعارض التي نظّمها النازيون اذ عرضت مئات اللوحات لفنانين مختلفين بهدف تحقيرهم وذمهم.
 
 
*كاتبة لبنانية واكاديمية متخصصة في تاريخ الفن / مقيمة في المانيا