فظاعات تُرتكبُ ضدَّ القيم الإنسانيَّة

بانوراما 2024/01/22
...

 باربرا أرفانيتيديس
 ترجمة: بهاء سلمان


كان مهدي، البالغ من العمر 16 عاماً، معصوب العينين عندما تحسس رجل غريبٌ عضلات ذراعه، فقد كان يبحث عن صبي {قوي} لغرض استخدامه كعامل في إحدى المزارع من خلال عملية شراء الأشخاص كتلك التي تحدث في صفقات بيع العبيد. وساعد حجم عضلاته الرجل المشتري على تحديد سعر معين لإكمال عملية شراء مهدي، إذ كان الرجل قد اشتراه من أحد رجال الميليشيات السودانيّة الذي أسره في مدينة الجنينة، عاصمة غرب دارفور.
يقول مهدي عن خاطفيه وغيرهم من الرجال المجهولين: "لقد ضربوني ووصفوني بالعبد، واستمروا بضربي على مختلف أطراف جسمي"، ويضيف: "كنت أجلس على الأرض وكانوا يضربونني على رقبتي"، وكانت شهادته المروّعة من بين عشرات الروايات، بما في ذلك روايات النساء اللاتي زعمن خضوعهن لعمليات الاستعباد الجنسي، والتي تم جمعها كجزء من فيلم وثائقي حصري لشبكة (سي إن إن) الأميركية حول الخسائر الإنسانيّة الناجمة عن القتال المستمر بين الجيش الحاكم في السودان وقوات الدعم السريع، صاحبة السطوة القوية.
ويكشف الفيلم الوثائقي عن حملة تقودها قوات الدعم السريع لاستعباد الرجال والنساء في الجنينة، وهي أكبر مدينة تسيطر عليها الجماعة المسلحة في منطقة دارفور الواقعة غرب السودان. وتحدث فريق من صحفيي شبكة سي أن أن ذهب إلى مخيّم "أدري" للاجئين الواقع عبر الحدود من منطقة مدينة الجنينة مع تشاد إلى أكثر من اثني عشر شاهداً، وصفوا عمليات اختطاف الأشخاص بشكل جماعي، حيث أجبرت النساء على القيام بأفعال جنسيَّة مقابل حصولهن على الطعام والماء، فضلاً عن المتاجرة ببيع الرجال والنساء من قبل خاطفيهم.
وتلقي رواياتهم المزيد من الضوء على أعمال العنف التي شهدتها منطقة غرب السودان التي مزّقتها الإبادة الجماعيَّة خلال الأشهر الخمسة الماضية بعد أن كانت بعيدة نسبياً عن خطوط الحرب التي اندلعت بين قوات الجيش السوداني والفصائل القبليَّة التابعة لقوات الدعم السريع السودانيَّة.
بلغت هذه الفظائع المهددة للقيم الانسانيّة ذروتها بعد أن استولت قوات الدعم السريع على الجنينة في منتصف حزيران الماضي، وقد أظهر تحقيق أجرته شبكة سي أن أن الأميركية أنّها مدعومة من قبل مجموعة فاغنر الروسية للمرتزقة. وبعد مرور فترة من الأيام التي تلت سيطرة قوات الدعم على الجنينة، بدأت القصص تنتشر عن فظاعات القتل والاغتصاب والسلب والحرق وبيع البشر. إذ قال رجل يدعى خالد (ليس هذا اسمه الحقيقي) إنّه رأى مقاتلين يرتدون زي الدعم السريع يقودون أكثر من اثنتي عشرة امرأة مكبّلة اليدين إلى مدرسة الجنينة الصناعيَّة، حيث كان يعمل مدرّساً.

تفاصيل مرعبة
يقول خالد، مشيراً إلى مراقبته للمشهد من خلال مخبأ خلف كومة من الخشب المقطع، ولم يخرج من مخبئه إلا عند حلول الليل: "لقد جلدوهن بالسياط التي تستخدم لضرب الحيوانات بينما كان صراخ الفتيات يتعالى"، ويقول إنّه رأى طوال اليوم المقاتلين يجبرون النساء على دخول الصفوف الدراسيَّة تحت تهديد السلاح، وبعد ذلك قال إنّه سمع أصواتا تشير إلى التعذيب
والاغتصاب.
ويشير الشاهد إلى أن العديد من النساء على ما يبدو كُنّ قد تم تهريبهن من مدن أقصى الشمال السوداني، حيث يمكن لأي مشاهد أن يميز أسلوب لباس المرأة الشماليَّة من خلال مظهر الثراء المتوسط النسبي، فيما تتجلّى سمة المزيج القبلي والعرقي في البشرة الفاتحة للنساء بشكل عام.
وقالت العديد من المجموعات الحقوقيَّة التي تتّخذ من السودان مقراً لها، بما في ذلك "وحدة مكافحة العنف ضد المرأة" التابعة للحكومة وكذلك مجموعة "المبادرة الاستراتيجية للمرأة في القرن الأفريقي"، للصحفيين إنّهم يعتقدون أن قوات الدعم السريع اختطفت عشرات النساء من العاصمة الخرطوم، ونقلوهن إلى معاقل الجماعة في دارفور.
ويقول نشطاء حقوق الإنسان إنّهم تحدثوا إلى عشرات المصادر المحليَّة التي قالت إنَّ النساء تعرّضن للاستغلال الجنسي على ما يبدو من قبل قوات الدعم السريع. وفي مخيم "أدري"، تحدث الصحفيون مع أربعة شهود آخرين، فضلاً عن خالد، حيث أكدوا رؤيتهم لأدلّة على قيام قوات الدعم السريع بالاِتّجار بالنساء من مناطق شمال السودان.
قالت إحدى المختطفات السابقات من دارفور إنها شاهدت سيارة رباعية الدفع تدخل حيّاً عربيّاً في الجنينة، وعلى متنها أربع نساء يبدو أنهن من شمال السودان، مشيرة إلى اقتراب أحد مقاتلي قوات الدعم السريع من السائق وكان يسأله عن المبلغ الذي يرغب في "بيع" النساء مقابله. وتستذكر سماعها للسائق الذي كان يتفاخر بأنّه "اختار النساء بعناية" وأن "أي مبلغ من المال" لن يجعله يسلمهن إلى مقاتلي قوات الدعم السريع.

أنتم جميعاً عبيد
أصبح اِتّجار قوات تلك الفصائل بالنساء من المناطق ذات الأغلبيّة العربيّة في شمال البلاد موضوعاً للنقاش يجري على نطاق واسع في السودان، مع تقارير كثيرة عن مطالبة مقاتلي قوات الدعم السريع بفدية مقابل إطلاق سراحهن.
في دارفور، يبدو أن النساء الأسيرات من القبائل غير العربية يعاملن على نحو مختلف، إذ إن الاستغلال الجنسي الواضح للنساء يميل إلى ان يمثل فترات أسر أقصر، ويفيد العشرات من الشهود والناجين والناشطين بأن إساءة معاملة تلك النساء كانت ذات دوافع تتسم بالعنصريَّة المقيتة.
والمعروف عن قوات الدعم السريع، وهي قوة مقاتلة عربيّة إلى حد كبير، ومتّهمة بالتطهير العرقي للقبائل غير العربية في دارفور، على نطاق واسع بأنها هي الجهة المنفّذة لجرائم الاستغلال الجنسي بشكل كبير هناك.
ولم تستجب قوات الدعم السريع لطلب الصحفيين للتعليق على مزاعم الاستعباد الجنسي. وكانت المصادر العسكرية للجماعة قد نفت في السابق مزاعم قيامها بحملة تطهير عرقي وارتكاب أعمال عنف جنسي في دارفور.
ووفقاً لتقرير هيومن رايتس ووتش الذي نشر في شهر آب من العام الماضي، فإن قوات الدعم السريع ارتكبت أعمال اغتصاب ضد عدة عشرات من النساء وحتى الفتيات اليافعات في منطقة الجنينة بين أواخر نيسان وأواخر حزيران. كما أضاف التقرير أن المهاجمين استهدفوا الناس على ما يبدو بسبب انتمائهم لمجموعة مساليت العرقية، وفي بعض الحالات، كان الهجمات تستهدف نشطاء
معروفين.
ويقول العديد من المختطفين السابقين في دارفور إن مقاتلي قوات الدعم السريع وحلفاءهم من الميليشيات المسلحة المختلفة وجهوا إليهم إساءات عنصرية أثناء فترة خضوعهم للأسر. وقالت امرأة تبلغ من العمر 22 عاما، إن مقاتلا يرتدي زي قوات الدعم السريع اختطفها من منزلها واحتجزها في بيت للدعارة. وقالت إنها سمعت محتجزها يتلقى أموالا من شخص آخر مقابل استعبادها في بيت الدعارة، تصل إلى سبعة آلاف جنيه سوداني، أي ما يعادل 10 دولارات.
وتحدثت المرأة الشابة عن معاناتها خلال فترة الحجز، وهي تنتمي إلى قبيلة مساليت، التي تعد الهدف الرئيسي لحملة التطهير العرقي الواضحة التي تقوم بها قوات الدعم السريع. وذكرت كيف كان محتجزها يصفها بالعبارات المسيئة على تعبيره: "بالنسبة لنا، أنتم جميعا عبيد، ولستم أحرارا"، وأوضحت أنه كان ينهال عليها بالضرب فضلا عن تفوّهه بالكلمات المهينة ضدها: "أنتم قذارة.
أنتم عار".

جلدونا بالسياط
وقالت امرأة أخرى لشبكة سي أن أن إنّها تعرّضت هي وأفراد عائلتها من الإناث للاغتصاب خلال فترة الأسر لمدة أربعة أيام. وقالت حوراء البالغة من العمر 20 عاماً: "لقد حبسونا أنا وأمي وأخواتي لمدة أربعة أيام واغتصبونا، حتى جاء اليوم الخامس الذي تمكنّا فيه من الهرب؛ ورأينا بعضاً من الميليشيا العربية وسط الشارع وانهالوا علينا بالجلد بالسياط وقالوا لنا إنَّ الهرب هو الوسيلة الوحيدة للنجاة بحياتنا، وشتمونا، ووصفونا بالحمير والماعز، وكان الأطفال منهكين، وبالكاد ساروا بضع خطوات قبل أن ينهاروا".
كما عثر الصحفيون على أدلة تؤكد قيام الميليشيات باستعباد الذكور كجزء من مشاهد الهجوم على منطقة الجنينة. يقول مهدي، الصبي البالغ من العمر 16 عاما، إنه تعرض للاختطاف مع شقيقه من قبل الرد السريع، وأنه سمع المقاتلين وهم يتفاوضون على "سعره" للعمل كعامل مزرعة.
وكان قد استمع إلى الأحاديث المتبادلة بين آسريه ورجال آخرين أثناء فترة ما كان معصوب العينين وكانت يداه وقدماه مقيدتين بالحبال. وقاموا بتحسس عضلات ذراعيه، لأنّهم "يريدون عضلات قوية للعمل".
كما أشار مهدي إلى بقائه عشرة أيام داخل المنزل الذي بيع فيه لصاحبه قبل أن يتمكن من الهرب ويصل إلى مكان آمن نسبيّاً في تشاد. لكنه قال إن شقيقه الذي أختطف معه في الوقت نفسه قد لقي حتفه على يد قوات الدعم السريع.

وكالة سي أن أن الاخبارية الاميركية