مبارك حسني
فعلا وحقا، ليس هذا الشريط أفضل أفلام وودي الان. لكنه فيلمه، وفي ذلك ما يشفع لمشاهدته، على الأقل للقاء عالم سينمائي مألوف، منتظر، له سمة مميزة. هذا المخرج الذي جعلنا نشاهد كل فيلم كما لو نقرأ رواية لكاتب عظيم، لن نخطئ إن تتبعنا فيلما أنجزه ليس في مستوى ما عهدناه فيه. ولأننا أحببنا سينماه، ولأننا نحب باريس الثقافة والفن والحياة الحلوة، فسنقبل الفيلم، وسنغفر له وهو في سنه السابعة والثمانين، فهناك دائما وودي الآن في كل فيلم له، عبر المواقف الساخرة والردود الحوارية التي لا تخطئ مرادها، كما تكون دوما محملة بالعبر والمعنى العميق.
للمرة الثالثة ينتقل إلى باريس لينقل عالما سينمائيا على طريقة الأدباء الأمريكيين الكبار الذين عاشوا بالمدينة إبان ريادتها الأدبية والفنية على المستوى العالمي، والذين سُمُّوا بكتاب الجيل الضائع في العشرينيات من القرن الماضي، وعلى رأسهم إرنست همنغواي وسكوت فيتزجرالد والذين سيحييهم سينمائيا غي شريطه الرائع "منتصف الليل في باريس" (2010). وذلك بعد تجربة سابقة "الجميع يقول أنا أحبك" (1996). وتجدر الإشارة إلى أن وودي الآن نشر في نفس هذه السنة كتابا هو مجموعة قصصية تحت عنوان "صفر جاذبية".
نرى في الفيلم باريس الحدائق والمقاهي والخريف. الصورة معتنى بشكل كبير، تعرض لنا مدينة مثالية ترافقها خلفية موسيقية شجية (وودي الآن عازف للجاز، وعاشق لهذا النوع، وقد خلده مرارا في السينما) تدعو القلوب للرقص بهدوء، وما تفتأ تتنامى مع تنامي دقائق الفيلم.
في "ضربة حظ"، هناك قصة حب معقدة يتدخل فيها الحظ ليملي في لحظات منتقاة بعناية مصير الأحداث، ليس من فوق وبتدبير خارجي، ولكن كأحد محددات الحياة بما هي حياة دون أن يتم الشعور بها. هي ثيمة لها خلفية فلسفية ووجودية تزيح المعنى عن المنتظر والمتَوقع. وهذا صُلب كل عمل إبداعي يلعب على خاصية الفجائي أكثر مما يروم الوفاء لمنطق تسلسل وقائع مترابطة لها نهاية منطقية. ليس هذا دأب وودي الآن.
وهكذا نجد آلان أوبير الكاتب البوهيمي (وهو يبدو كما لو كان معادلا للمخرج نفسه، مستعيرا منه صفته وبعض أحلامه الإبداعية والأوروبية) الذي يلتقي صديقة دراسة قديمة كان يحبها هي فاني بطلة الفيلم، الشابة المتزوجة بجان فورنيي، وهو رجل أعمال غني ومتسلط وعنيد. ومن خلال لقائها، ترتبط به من جديد وتجد نفسها في موقف اختياري رهيب، هي التي كانت تعيش في حياة رغد مثالية، في حي باريسي راقٍ ومخمليٍّ. من ثَمَّ ستنشأ علاقة ثلاثية على الطريقة المسرحية الفرنسية المعروفة. وهذا الحضور الفرنسي حاضر، لأن لغة الفيلم فرنسية، رغم أن وودي الآن لا يتحدث بها جيدا. لكنه استطاع سينمائيا أن يتجاوزها، بما أنها لم تشكل عائقا. وهكذا ظهر الفيلم شبيها في الكثير من نواحيه بأفلام الواقعية الشعرية لسنوات الخمسينات والستينيات، وقريبا من أفلام إريك رومير، أحد مخرجي الموجة الجديدة الكبار، بتركيزه على العلاقات الحميمية بين الأشخاص التي تلعب فيها الهواجس الباطنية والخصائص البسيكولوجية للشخصيات دورا كبيرا وحاسما. وقد باح بهذين الرافدين حين وضح بأنه "لطالما أحببت السينما الأوروبية، والسينما الفرنسية على وجه الخصوص، وعندما اقترحت الفكرة على المنتجين، تفاعلوا بحماس"
وكما هو مألوف في أعماله السابقة، خاصة الأخيرة، هناك حبكة متقنة بها تحَرِّي تنتهي بقفلة غير منتظرة، ترتبط بجريمة لها كل مواصفات الجريمة الكاملة. هناك سلسلة تَعَقُّبٍ حثيثٍ من طرف الزوج المتسلط الذي لا يقبل الخيانة، المتوازية مع سلسلة من الكذب والخيانات من طرف الزوجة الشابة التي تجَرِّب الزواج للمرة الثانية وتود أن يكون ناجحا، ثم حدث اختفاء العشيق الولهان الذي لا يؤمن إلا باللحظة وبالمتعة، ولا يفكر في المستقبل. وهكذا يسود الغموض الأحداث مع توالي التحري لمعرفة ما حدث بالضبط، في مزيج من الدراما والكوميديا السوداء. وما بين البداية والنهاية، تنثال الأسئلة في دخيلة كل شخصية تفضحها نظراتها، الناتجة عن واقع وجدوا أنفسهم ضحية له أو لعبة بين يديه، فيتصرفون حسب صفاتهم المذكورة أعلاه. المكابرة أو تأنيب الضمير أو عدم الاكتراث، حسب حالة كل واحد منهم.
وودي الآن الباريسي اختلاق أمريكي جريء. قراءة خاصة تتبع قراءات فيلمية سابقة لمخرجين كبار سابقين للقبض على سحر المدينة الأخاذ. وهذه وإن لم تحقق كل مبتغاها السينمائي كاختراق إبداعي كبير، مكنت المخرج/ المؤلف من اقتطاع وقت امتاع ذي خلفية ثقافية، ذلك الذي تنجح فيه السينما المؤسسة على رؤية سينمائية/ أدبية متداخلة ومتعاونة بين الجنسين يخرج منها الفن السابع رابحا كيف ما كان الحال.