عرّاب أحلام الشباب

ثقافة 2024/01/23
...

  إحسان العسكري


لا مناص من الدهشة.. كلما تقود أحدنا خطواته تحت ظلال نصب الحرية، تعويذة المحبة تلك التي صنعها جواد سليم كأنما يريد أن يشد أنفاسنا نحو قلب بغداد، رئة تتنفس الحرية أينما حلّت بها الذكرى يقيناً شاخصاً أمام العاشقين والبسطاء والأصلاء، حيث ساحة التحرير ملتقانا جميعاً في مواعيدنا الغرامية، وبحثنا عن طبيب هناك، أو طباعة صورة التقطناها في زمنٍ ما، حتى غضبنا وثوراتنا واحتفالاتنا وجميع تبتلاتنا لا تنفكُّ تذوب فوق البلاط الذي تحت النصب، حتى العراقي الذي يشق عباب الظلام بساعده والعمال البناؤون والمرأة العراقية وكل تفصيلة تخبئ تحتها شيئاً منا، نحن المغرمون ببغداد الحرة. 

نستذكر ذواتنا تحت أكبر نصب فني شُيدَ في الشرق الأوسط.. النصب الذي القى بظلاله على تأريخ هذا الشعب ابتداءً بثورة الإطاحة بالنظام الملكي، وما بعده من أنظمة حكمت البلاد وأثرت في تأريخه، حكاية ممتدة من الطلقات الأولى لولادة  الجمهورية العراقية وحتى الإطلاقات التي خدشت رخامه حيث تشرين و من روّى أروقة النصب بدمائه وأنار أطرافه من شباب العراق. 

ورغم أن جواد سليم رحل ولم يشهد افتتاحه، إلا إنه عاش معه مشاركاً لنا في كل تنهيدة تغازل ذكرياتنا تحت نصبه الذي بحقيقته يمثل طفرة فريدة في تأريخ النّصُب حيث صنعه هذا العملاق بطريقة تسمى (ريليف)، والصورة المنحوتة أو النقش البارز، عملاً يمثل كل طبقات هذا الشعب و خاصة الفئة الثائرة منه، كما عبر عنه الأديب العالمي جبرا ابراهيم جبرا بوصفه للنصب بقوله: هو انتصار للطبقة العراقيّة العاملة.  

انتصارٌ كان جواد سليم مصوره، هذا الرجل الذي حمّل حياته ذكريات من القرنفل التركي.. ولد والياسمين الموصلي.. نشأ واللحن البغدادي حيث ينتمي الإبداع ودرس الفخامة الإيطالية، لقد صنع النصب، وأشرف على صب القطع بنفسه فذاب فيه، وأورث ذوبانه هذا للبريطانية زوجته التي أكملت عمله بعد رحيله.

كل شيء في نصب الحرية وماحوله يمثل حكايات شعب صنعها فنان منه، فجعله شاهداً على تأريخ شعبه السياسي والاجتماعي والثقافي، ولم يبرح هذا الشعب تأثره حتى انتمى بكل جماله إلى هذا الجمال الذي وثقه. أكاد أجزم أن لم يؤثر نصب فني في تأريخ أي شعب، ولم يمثله كما مثلنا نصب الحرية وشهد تأريخنا وعاش حاضرنا ومازال عتيداً يسابق خطو الشباب نحو أحلام المستقبل. 

إنها مسؤولية وطن تحملناها جميعاً فكلنا كادحون تقريباً و ما صنعه جواد سليم لم يكن عملاً فنياً وحسب بل في كل رمزية من رمزياته الأربع ملحمة مستقلة بفكرتها عن جاراتها ومرتبطة معها بذات الروح، وكأنما أراد سليم أن ينحت انتماءه لحلمه بعظمة احترامه لقيمه التي يؤمن بها إيمانه بالوطن، وطبقات شعبه الذي أحبه فبادله الأخير خلوده.