كوميديا المواطن اليوميَّة

ثقافة 2024/01/23
...

   * أحمد البغدادي 


 "يحيى يعيش ولا يحيى" رواية الأديب التركي الشهير، عزيز نيسين، الذي ولد عام 1915 وتوفي عن عمر يناهز ثمانية عقود، واتصف بمعارضة الأنظمة الدكتاتوريَّة في بلاده على مر 

العصور. 

 نقل الرواية إلى العربيّة بكر صدقي، وهي في الأصل مجموعة قصصيّة متفرقة نشرت في مجلات عديدة تم جمعها، بتشجيع من أصدقاء الكاتب، في مجلد، ليتطور الأمر لاحقاً إلى إعادة صياغتها وعرضها على شكل مسلسل تلفزيوني من 12 حلقة، بناءً على طلب أحد المخرجين، ثمَّ تحولت إلى مسرحية، حيث لاقى كل من المسلسل والمسرحيّة إقبالاً منقطع النظير، ثم تطور الأمر ثانية ليجمعها ويعيد صياغتها، بعد إلحاح القرّاء "لم يشأ نيسين أن يكتب رواية تستمدّ مادتها من قصص سبق نشرها، لكن رغبة القرّاء وضغوط المحيط غلبته، حيث رأى أن تلك القصص تكتسب بُعداً جديداً باجتماعها معاً، فقرر كتابة "يشار لا هو حي ولا بالميت" كرواية هذه 

المرة" ص 9.  

الرواية مليئة بالكوميديا السوداء، إذ يشكو بطل الرواية يشار، في سجنه، من انغلاق الأبواب أمامه فيخفف عليه أحد النزلاء مصاعب السجن "لا تهتم يا بني.. إذا أغلق الله باباً فإنّه يفتح آخر، فيجيب يشار: لا باب يُفتح أمامي سوى باب السجن.. فيرد عليه أكبر نزلاء المهجع سناً: كن منصفاً، فقد انفتح أمامك كذلك باب مشفى المجانين"ص181.

إلا أن هذه الحكايات في الوقت نفسه تأخذ منحىً سياسياً بامتياز، إذ تستعرض حكايات كثيرة تدور حول جوانب الحياة المختلفة يكون بطلها يشار بسبب ما عاناهُ لعدم امتلاكه بطاقة شخصيّة، إذ تمَّ عن طريق الخطأ شطب اسمه من سجل الأحياء في السجلات الرسميَّة باعتباره قد استشهد في إحدى المعارك مع أنّه لم يزل طفلاً، ولأنّ هذه السجلات صحيحة لا تحتمل الخطأ في نظر الحكومة ومسؤوليها، مما يوقعه في مطبّات ومواقف ومقالب متنوعة في مجالات الحياة المتنوعة، أدت بالنهاية إلى دخوله السجن، ليستثمرها الكاتب بذكاء وحذاقة في إبراز مناحي الفساد والبيروقراطية في مسارح تلك الحكايات وتفاصيلها (ضرب الموظف الدفتر بقبضته مُثيراً سحابة غبار أخرى وصرخ، موجها كلامه إلى والد يشار "ها هو القيد هنا! اِبنك ميت في السجل، ليس بوسعنا أن نُعطي الميت بطاقة شخصية) ص37، بالرغم من أن تاريخ الوفاة المدوّنة بالسجلات تشير إلى أنّها حدثت بعد أربع سنوات من زواج أبيه "لو أن اِبني ولد في اليوم نفسه الذي تزوّجتُ فيها، يقول والد يشار، سيكون في الرابعة من عمره في عام 1915، تاريخ الاستشهاد المزعوم، متى كبُر الطفل الذي عمره أربع سنوات، ومتى التحق بالجيش حتى يستشهد في عام 2015؟" ص38.

من جهة أخرى يوازي الكاتب بين مسرح الرواية وهو السجن، إذ يقُصّ حكاياته على النزلاء فيه كل ليلة، مع بلده تركيا بشكل عام، موحياً بشكل غير مباشر إلى أن بلده كلها عبارة عن سجن كبير، وأن المواطن التركي ليس إلّا نزيل في هذا السجن المفتوح!.

"إنّ سبب إصغائهم إلى حكايات يشار بكل هذا الاهتمام هو أنّهم يجدون فيها أنفسهم، فقد عاشوا بدورهم أحداثاً مماثلة إلى هذا الحد أو ذاك. 

إن ما يحكيه لهم يشار  هو الشيء المشترك في حياة كل منهم، وكأن يشار يجمع هموم الجميع ويوحدها في نفسه، ثم يحكيها باعتبارها همومه الخاصة"ص148.

في تركيز الراوي على أهمية ودور البطاقة الشخصيّة في كل جوانب حياة المواطن، يلمح إلى خلل في الفهم والتعامل مع الإنسان وانعدام المنطق، وذلك عندما تكون البطاقة الشخصية أكثر أهمية ومصداقية من المواطن نفسه، بل إن المواطن نفسه ليس له قيمة أساساً من دون هذه البطاقة، خاصة عندما يتعلق الأمر بمطالبته بحقوقه الأساسية، كالدخول إلى المدرسة أو التقديم على عمل أو الحصول على إرث والده أو استرداد مستحقات له أو تسريحه من الجيش أو تسجيل زواج، لتتصاعد المعاناة في إحدى حكاياته الحزينة إلى حرمانه من تسجيل ابنه في السجل الرسمي للمواليد الجدد، لان الأب لا يمتلك بطاقة شخصية، بينما يتبدل موقف الحكومة والمجتمع والأفراد من الشخص نفسه عندما يتعلق الموقف باسترجاع أو استيفاء الحكومة لضريبة منه أو سوقه إلى الجيش أو دفع إيجار أو طلب إخلاء من سكن، فيتم مطالبته وتحذيره وإنذاره ومتابعته شخصيّاً برغم عدم اعتراف الحكومة والآخرين بأنّه حي، لعدم امتلاكه البطاقة الشخصية "أحيانا يُمسكون بعنقي ويقولون لي بأنّي حي، أما إذا احتجت لأمر ما فإنّهم يقولون بأنّني لا أعيش وأنّني استشهدت" ص 44.

"أردتُ الذهاب إلى المدرسة قالوا إنّني ميت، وحين أرادوا تجنيدي قالوا بأنّني حي، وعندما آن أوان تسريحي عادوا ليقولوا بأنني ميت"ص57.

من الجدير ذكره أن الكاتب يُعد أحد أفضل كُتّاب الأدب الساخر، ونال العديد من الجوائز، منها جائزة السعفة الذهبيَّة من إيطاليا عام 1956، وجائزة المجمع اللغوي التركي عام 1969. 

ترك أكثر من 100 عمل في الرواية والمسرحية والقصة القصيرة.

استخدم الكاتب اسم عزيز نيسين (اسمه الحقيقي محمد نصرت نيسين) وعرف به فيما بعد، كاسم مستعار كنوع من الحماية ضد مطاردات الأمن السياسي في تركيا، وبرغم من ذلك فقد دخل السجن مرات عديدة. 

يعد نيسين واحداً من أفضل كتّاب ما يعرف بالكوميديا السوداء، أو ما تسمّى بالقصص المضحكة المبكية، والمضحك المبكي في حياته أنّه وبرغم شهرته الواسعة في كل أرجاء العالم كمبدع فذ إلا أن بلده الأم تركيا لم تعطه من حقه سوى القليل!. 

صدرت الرواية عن دار "نينوى للدراسات والنشر والتوزيع" في سوريا عام 2002 وتقع في 360 صفحة من القطع الوسط.