كاظم حيدر.. البحث المرئيّ والنسق المفارق

ثقافة 2024/01/24
...

   د. جواد الزيدي                                      

إن التعرض لتجربة الفنان كاظم حيدر يعني ضمناً تلمس صلاتها مع مشهديَّة التّشكيل العراقيّ، والحديث عن هذه التّوصلات والظروف الموضوعيَّة المحيطة بتشكله وتشّييد صرحه الجماليّ في ضوء تعالقات الأفكار الإنسانيّة الكبرى مع اتجاهات الرسم، ومعطيات الحياة الاجتماعيّة المحليّة في مرحلة البحث عن هوية أو ظلال للهوية الفنيّة العراقيّة انطلاقا من تلك الجذور التي يمكن أن يتسم بها الخطاب الفنيّ ليخرج من دائرة التأثير الشكليَّة الكبرى خوفا من لا يقع الأثر على الأثر.
بيد أن تلك الرؤى استطاعت إيجاد المبررات والحلول للذهاب بذلك الخطاب إلى مصاف الخطابات النابعة من جوهر الهَّم الانسانيّ، والأسئلة الوجودية الكبرى التي كانت تمليها مرحلة ومقطع زمنيّ على الذات المفكرة، لتنتج خطابا بصريا يتسق مع  تلك المعطيات بمساهمة عوامل كثيرة منها ما هو ذاتيّ وما هو موضوعيّ.
ولذا يعد حيدر واحداً من هذه الأسماء المهمة والفاعلة في حركة جيل من الثقافة العراقيَّة، وليس على صعيد الفن وحده، لأنه خاض في مضمار البحث البصريّ والتفكير النقديّ والمسرح والدرس الأكاديمي، فضلاً عن العمل النقابي بوصفه رئيساً لإتحاد التشكيليين العرب، والحفر في جوهر هذا كله من خلال التوصلات الفكريّة العميقة التي تنضوي عليها تلك التجربة الإبداعيّة.
وعندما نستحضر تجربته الآن، لأنها تكرست في تاريخ الرسم وذاكرة الأجيال الفنيّة واتسعت رؤيّة النظر إليها في ضوء القراءات والمقاربات الاسلوبيّة التي يقترن بها الفضاء التعبيريّ لما أوجده حيدر في ضوء الالتصاق بالهموم الشعبيَّة من جهة وانتمائه لاشتغاله الفنيّ وتطلعاته للبحث عن الجديد المختلف والمغاير والمؤطر أيضاً بمحركات نظريّة بمثابة الحجة والدليل على توصلاته الجمالية وتأثيرات جيله، والمنطق المجموعي الذي يحكمه من خلال وجوده ضمن جماعة الأكاديميين أو ضمن جيل حيوي ومفكر للوصول إلى مثابات عالية في الخطاب الفنيّ بحكم رؤيته الخاصة، وتطلعاته المستمرة في إيجاد منظومة بصريّة تختلف عما هو بجابنه او مألوف ومجاور، وتضع الرسم في خانة التفكير المنطلق من موضوعات محليّة ترتقي إلى الموضوعات الإنسانيّة، وتنطلق من الخاص إلى العام في تجسيد الرؤيّة وتصديرها يستند إلى آليات أكثر حداثة.
وكان له هذا عندما اقترب من المرموزات المحليّة والهموم الشعبيّة والواقعيّة، وبدأ يفتش فيها طويلا ليجد مساره المفارق الذي أضحى مثار جدل واسع لدى الأوساط الثقافيّة والسياسيّة، حتى تم تقييده بالمحضورات أزاء رغبته لتقديم معرضه الذي كان يرمي إلى اقامته في بغداد، وتم عرضه في بيروت عام 1965.
إن اِنحياز حيدر لمشروعه التأسيسيّ يعد علامة فارقة في جسد التّشكيل العراقيّ والعربيّ، وكشوفاته التي وضعت حداً لطرازية الايحاء والوصف في الحقل الفنيّ، وتجاوز ذلك نحو ما هو تحليليّ وتركيبيّ وإعادة إنتاج صيغ الحياة والأفكار بطرق جديدة، إذ أن تأثير المعطيات الواقع السياسيّ والدينيّ له الأثر الواسع في منجزه العياني وأضحت المضامين الإنسانيّة المشتركة جزءاً رئيساً من موضوعاته مثل الشهادة والبطولة وتثويرها لتصل إلى الآخر على أنها مضامينه أيضاً وترتقي بها، في محاولة لجعل الرموز العراقيّة والعربيّة والإسلاميّة علامة مهيمنة في ذلك الخطاب تؤسس لحضورها الواضح في الذاكرة الجمعية بما يستوي مع الحضور الانساني ساعياً إلى عولمة تلك الرموز متأثراً بمنهج نقدي فاحص يتخذ من الواقع أساسا في قراءاته النقديّة، حيث حركية الواقع وسيرورة التاريخ وحتميته، بما تفرضه أنساق التطور الاجتماعيّ التي تؤدي بالتأكيد إلى تراكمات على صعيد الوعي بوصفه محدداً للنظر إلى اللامرئي في صراع الطبقات الاجتماعية ليتصير إلى خطاب مرئي عياني. وبالتالي تصبح تأثيرات الفكر على الواقع واضحة، وتجعل منه أداة للتغيير وليس لمعرفة ذاته فقط (علينا أن نسعى إلى تغيير العالم لا لتفسيره وفهمه فقط ).
ولذلك عندما أتخذ من تلك المرموزات أساساً في منجزه المتحقق هي محاولة لتغيير وجهة النظر إلى الواقع بإتجاه ما هو أجمل ويقترن بالخصائص الروحيّة التي جسدها على سطحه التصويري ومجمل خطابه المرئي، وهذا ما يفسر انحياز (حيدر) للقضايا الإنسانيّة والشرقيّة واِلتصاقه بها لتكون موضوعا لأعماله الفنيّة ضمن مسار الرسوميّة العراقيّة والعربيّة وتراكمها الانجازي، فصور فواجع التاريخ ليجعل منها وثائق أزلية للصراع بين الخير والشر موظفاً وسائل تعبيريّة معاصرة نازعاً عنها اللباس التاريخي والمكاني الذي ترتديه ليتيح المجال واسعاً أمام آليات التلقي، وهي تواجه الألم الإنساني المحض والخسارات التي تتعرض لها الإنسانية على مر التأريخ. كاظم حيدر الفنان المبدع والاشكالي سعى بدون قصديّة معلنة إلى نقش أسمه واضحاً بحروف ذهبيّة على مشهدية التّشكيل العربيّ والعراقي، بوصفه منتجا لرؤى جديدة على صعيد فكرة الرسم واستلهامها مضامين لم تكن تتصدر مثل تلك الاتجاهات الفنيّة، ومعلماً تستذكره المؤسسة التعليميّة بفخر مثلما تستذكره المؤسسة المهنيّة التي قاد عملها النقابي فترة طويلة بعيداً عن الانحياز الشخصي أو الدوافع الذاتيّة، بل من خلال الانحياز لوعيه المتقدم الذي أرسى قواعد فنيّة أسهمت في مشاريع الصياغات الجمالية التي يعيد الدرس النقدي قراءتها كل مرة وبشكل يكشف فيها الكثير من المسكوت عنه والمضمر، لتصبح إضافة معرفية بالاتجاهين النقديّ والكشف المرئي لبلورة الأساليب والاتجاهات انطلاقاً من التفكير الفلسفي المتعالي الذي تتشاكل فيه المدارس والمسارات النظرية، بما يفضي في النهاية إلى ما يشبه الإتجاه الخالص في الرسم العراقي والعربي الذي أنجزه بإخلاص وانشغل فيه وقدم له ما يستطيع من رؤى كبيرة ضمن هذا الحيز المكاني واللحظة الزمانية المحددة والمؤطرة بانجازها المتحقق تدعونا إلى استذكاره وإعادة قراءة أعماله نقديا من أجل التذكير بفاعلية الخطاب وتأثيره في اللاحق بما يسجل تجليات نوعيّة للرسوميّة العراقيَّة.