نهاية هيباتيا المَأساويَّة
سارة زيلينسكي
ترجمة: عبود الجابري
حشد من المسيحيين المتعصبين يقودهم بطرس القارئ، يعترض عربة تقل امرأة في شوارع الإسكندرية، يسحبون المرأة إلى الكنيسة وهناك يجردونها من ملابسها ويضربونها بما هو متاح بين أيديهم حتى الموت، غير أنهم لم يكتفوا بذلك، حيث قاموا بتمزيق جسدها وإحراقه. كان ذلك عام 415، أما المرأة فكانت "هيباتيا" واحدة من آخر المفكرين العظماء في الاسكندرية، وواحدة من أوائل النساء اللاتي درسن وعلمن الرياضيات وعلم الفلك والفلسفة. وعلى الرغم من أن الناس يتذكرونها أكثر بسبب موتها العنيف، إلا أن حياتها الدراميّة تمثل عدسة تلقي الضوء على محنة العلم في عصر الصراع الديني والطائفي.
سرعان ما تطورت مدينة الإسكندريّة لتصبح مركزًا للثقافة والتعليم للعالم القديم. في قلبها كان المتحف، وهو نوع من الجامعات، التي كانت مجموعتها المكونة من أكثر من نصف مليون مخطوطة موجودة في مكتبة الإسكندرية، وكان الإسكندر الأكبر قد أسسها عام 331 قبل الميلاد.
لكنها شهدت تراجعًا بطيئًا بدءًا من عام 48 قبل الميلاد، عندما غزاها يوليوس قيصر لصالح روما وأحرق المكتبة عن طريق الخطأ. (ثم أعيد بناؤها). وبحلول عام 364، انقسمت الإمبراطورية الرومانية وأصبحت الإسكندرية جزءًا من النصف الشرقي، وكانت تعاني من القتال بين المسيحيين واليهود والوثنيين، بينما عملت الحروب الأهليّة اللاحقة على تدمير الكثير من محتويات المكتبة، ومن المحتمل أن تكون البقايا الأخيرة قد اختفت، إلى جانب المتحف، في عام 391، عندما قام رئيس الأساقفة ثيوفيلوس بناءً على أوامر الإمبراطور الروماني بتدمير جميع المعابد الوثنية، فهدم معبد سيرابيس، الذي ربما كان يضم المخطوطات الأخيرة، وبنى كنيسة في الموقع، وكان والد هيباتيا عالم الرياضيات والفلكيّ ثيون، آخرَ عضو معروف في المتحف ممن نجت بعض كتاباتهم، ومن بينها تعليقه الشهير على النسخة الوحيدة من كتاب العناصر لإقليدس، وهو العمل الأساسي في الهندسة حتى القرن التاسع، حيث كتب ما نصّه: (نسخة من عمل كلاسيكي يشتمل على ملاحظات توضيحية).
لا يُعرف سوى القليل عن حياة هيباتيا العائلية، حتى تاريخ ميلادها محل خلاف، فقد اعتقد العلماء منذ فترة طويلة أنها ولدت عام 370، لكن المؤرخين المعاصرين يعتقدون أن عام 350 هو الأرجح، بينما يكتنف الغموض هوية والدتها، وربما كان لها أخ يدعى أبيفانيوس، الذي يحتمل أن يكون مجرد تلميذ من تلامذة أبيها المفضلين.
قام ثيون بتدريس الرياضيات وعلم الفلك لابنته، وعاونته في كتابة بعض نصوصه، ويعتقد أن الكتاب الثالث من نسخة ثيون من كتاب المجسطي لبطليموس -الأطروحة التي أسست نموذج مركزية الأرض للكون والذي لم يدحض حتى زمن كوبرنيكوس وجاليليو- كان في الواقع من عمل هيباتيا.
لقد كانت عالمة رياضيات وعالمة فلك، وكانت تقوم بتدريس سلسلة متعاقبة من الطلاب في منزلها، وتشير رسائل أحد هؤلاء الطلاب، وهو سينيسيوس، إلى أنّ هذه الدروس تضمنت كيفية تصميم الإسطرلاب، وهو نوع من الآلة الحاسبة الفلكية المحمولة التي سيتم استخدامها حتى القرن التاسع عشر.
وبعيدًا عن مجالات خبرة والدها، أسست هيباتيا نفسها كفيلسوفة فيما يُعرف الآن باسم المدرسة الأفلاطونية الحديثة، وهو نظام اعتقادي ينبثق فيه كل شيء من الواحد. (أصبح تلميذها سينيسيوس أسقفًا في الكنيسة المسيحيّة وقام بدمج مبادئ الأفلاطونية الحديثة في عقيدة الثالوث). وكانت محاضراتها العامة شائعة واجتذبت الحشود، ويتجلى ذلك فيما كتبه الفيلسوف داماسكيوس بعد وفاتها: "ارتدت السيدة (رداء العالم)، وظهرت في جميع أنحاء وسط المدينة، لتشرح علنًا لأولئك الذين يرغبون في الاستماع إلى أفلاطون أو أرسطو".
بينما كتب عنها "بيتمان كوربيس": "كانت هيباتيا واحدة من آخر المفكرين العظماء في الإسكندرية القديمة وواحدة من أوائل النساء اللاتي درسن وعلمن الرياضيات وعلم الفلك والفلسفة".
لم تتزوج هيباتيا قط، وهو ما كان متوافقًا مع أفكار أفلاطون حول إلغاء نظام الأسرة، وتبعاً لما وردَ في "معجم سودا"، وهو موسوعة تعود إلى القرن العاشر عن عالم البحر الأبيض المتوسط، بأنَّها "جميلة للغاية وجميلة التصرف... في كلامها الواضح والمنطقي، في تصرفاتها الحكيمة والروحية العامة، وقد رحبت بها بقية المدينة بشكل مناسب وأعطتها احترامًا خاصًا.
وكان من بين المعجبين بها محافظ الإسكندرية أوريستيس. ارتباطها به سيؤدي في النهاية إلى وفاتها".
خلف كيرلس عمّه ثيوفيلوس، رئيس الأساقفة الذي دمر آخر مكتبة الإسكندرية العظيمة في عام 412 ، فواصل نهجه المتمثل في العداء للأديان الأخر، (كانَ أول ما فعله نهب الكنائس التابعة للطائفة المسيحية النوفاتية)، وكان لخلافه مع أوريتيس المسؤول عن الحكومة المدنية دورٌ أساسي في الحرب الطائفية التي دارت رحاها في الاسكندرية، ووصل الصراع إلى ذروته في أعقاب مذبحة المسيحيين على أيدي متطرفين يهود، ما جعل كيرلس يقود جيشاً ليطرد جميع اليهود من المدينة وينهب منازلهم ومعابدهم.
كانت هيباتيا هدفًا سهلاً، لأنها وثنية تتحدث علانية عن فلسفةٍ غير مسيحية، وهي الأفلاطونية الحديثة، وكانت احتمالات حمايتها من قبل الحراس أقل من الآخرين، وانتشرت شائعة مفادها أن هيباتيا تمنع أطراف الحرب الدائرة من تسوية خلافاتهما، ما جعل بطرس القارئ وجماعته يتحركون ليكتبوا نهاية هيباتيا المأساوية.
لم يكن لكيرلس دور واضحٌ في وفاة هيباتيا على الإطلاق. "أولئك الذين تقودهم انتماءاتهم إلى تبجيل ذكراه يبرئونه؛ مناهضو رجال الدين وأمثالهم سعداء بإدانة الرجل"، كتب ذلك "مايكل ديكين" في كتابه الصادر عام 2007 بعنوان "هيباتيا الإسكندرية"، وكتب كذلك:
"وفي الوقت نفسه، أصبحت هيباتيا رمزًا للنسويات، وشهيدة للوثنيين والملحدين، وشخصيّة في الخيال. استخدمها فولتير لإدانة الكنيسة والدين. جعلها رجل الدين الإنجليزي تشارلز كينجسلي موضوعًا للرومانسية في منتصف العصر الفيكتوري. وهي البطلة التي تلعب دورها راشيل وايز في الفيلم الإسباني أغورا الذي صدر في الولايات المتحدة. يحكي الفيلم قصة هيباتيا الخيالية وهي تكافح لإنقاذ المكتبة من المتعصبين المسيحيين. لم تمت الوثنية ولا العلم في الإسكندرية بموت هيباتيا، لكنَّ موتها كان بالتأكيد ضربة موجعة لكليهما"، وكتب ديكين أيضاً: "لقد كانت بمفردها تقريبًا، وهي تقريبًا آخر أكاديمية، تدافع عن القيم الفكرية، والرياضيات الصارمة، والأفلاطونية الحديثة الزاهدة، والدور الحاسم للعقل، وصوت الاعتدال والاعتدال في الحياة المدنية".
ربما كانت ضحية للتعصب الدينيّ، لكن هيباتيا تظل مصدر إلهام حتى في العصر الحديث.
__________________
- سارة زيلينسكي : صحفية حائزة على جوائز تتمتع بخبرة تقرب من عقدين من الزمن في تغطية نطاق واسع من العلوم، بما في ذلك تغير المناخ والحيوانات والعالم الطبيعي. تتولى سارة حاليًا منصب محررة Print of Science News Explores
- المصدر: مجلة Smithsonianmag