المركب السَّكران في ترجمتين

ثقافة 2024/01/24
...

  ريسان الخزعلي

(1)
من خلال الترجمة، طالعنا الأدب العالميّ وتعرّفنا على معظم فنونه الإبداعيَّة: السرديَّة، الشعريَّة، النقديّة، التشكيليّة، العلميّة، الاقتصاديّة، الفكريّة، الفلسفيّة.. إلخ، وتلك هي فضيلة الترجمة. فهل استطاعت الترجمة أن تنقل المضامين بدقّة، والمحافظة على المعنى والمستويات  البنائيّة والفنيّة والجماليّة التي أرادها وحققها صاحب العمل المُترجم..؟
إنَّ الإجابة لا بدَّ أن تتوافر على معرفة مستويات المترجمين من الناحية الأكاديميّة والمعرفيّة في التخصص اللّغوي، وكيفية فهم النّص الأساس وتطويعه للغة الجديدة وجمالياتها، وهل تمّت الترجمة من اللُّغة الأم، أم من لغة أخرى..؟
ومهما كانت مهارات المترجمين عالية، إلّا أننا نجد بعض تباينات واضحة حينما نقرأ عملاً مترجماً قام بترجمته على انفراد اثنان، أو أكثر من المترجمين. ومثل هذا التباين يظهر بوضوح في ترجمة الأعمال الشعريّة، أما في ترجمة الأعمال السرديّة، فمهما كان التباين، فإنَّ التوصيل يكون ممكناً ومقبولاً، كون الصياغات النثريّة أكثر طواعيّة من الصياغات الشعريّة. ولأنَّ الشّعر يقوم على تشكيل لغويّ خاص، وبناء صوَري وايحائي ورمزي، وما هو باطني  أحياناً.. إلخ من مرتكزات الشعريّة؛ من هنا يحصل التباين الأوضح مقارنة مع ترجمة السّرديات.
إنَّ ترجمة الشّعر تستوجب من المترجم أن يتمثل هذه العناصر ويعكسها بقدرات شعريّة، وعلى العكس من ذلك تغدو الترجمة نقلاً يحاول توضيح المعنى.
(2)
وللتوضيح والتطبيق حول تباين ترجمة الشعر، أُثبت هنا ترجمتين لقصيدة/ المركب السكران/ لرامبو، هذه القصيدة الشاغلة منذ عقود زمنية وحتى يومنا هذا. الأولى من كتاب: رامبو - تأليف سمير الحاج شاهين، والثانية ترجمة الشاعر خليل خوري من كتاب - رامبو حياته وآثاره. وقد اكتفيت بمقاطع القصيدة الثلاثة الأولى من ترجمتهما كعيّنة تطبيقيّة.

الأولى:
فيما كنتُ أنحدر أنهاراً عديمة الحس
لم أعد أشعر أنَّ ساحبي المركب يرشدونني:
هنود حمر صيّاحون اتخذوهم دريئة
إذ سمّروهم عراة على أعمدة الألوان.
                *
كنتُ مستهتراً بجميع طواقم الملاحة،
حاملاً قمحة فلمنكية وأقطاناً انجليزية،
عندما انتهت مع ساحبي مركبي تلك القرقعات،
تركتني الأنهار أنحدر حيثما أريد.
               *
في تلاطمات المد والجزر الغاضبة
أنا، الشتاء الماضي، أكثر صمماً من أدمغة الأطفال،
ركضت. وأشباه – الجزر المقلعة
لم تعانِ ما هو أعظم انتصاراً من سوراتي الفوضوية.
                    *
الثانية:
بينما كنت ُ أنحدر في أنهارٍ راكدة
لم أعد أحس بي اطلاقاً منقاداً بالملّاحين
هنود حمر صخّابون جعلوا منهم أهدافاً
بعد أن سمّروهم عراة أعمدة الألوان.
               *
كنت ُ غافلا ً عن جميع الطاقم
حمّال حنطة فلاماندية أم أقطان انكَليزية
حين بانتهاء بحارتي انتهت تلك الضوضاء
وتركتُ الأنهر أنحدر على هواي.
                *
في هدرات المد والجزر الغاضبة
- الشتاء الماضي – أنا الأكثر رعونة من أدمغة الأطفال
جريت! وأشباه الجزر العائمة
لم تألف تخبطات أكثر انتصاراً.
                *
إنَّ قراءة متمعنة في الترجمتين، تُرينا الفوارق في بناء وصياغة الجُمل ومحددات طولها وقصرها ومعانيها، وكذلك فوارق الصفات التي تُلصق بالموصوف. وكمثال، يمكن ملاحظة  ترجمة بعض الشطرات الشعريَّة: (أنحدر أنهاراً عديمة الحس - الترجمة الأولى، أنحدر في أنهار راكدة - الترجمة الثانية)..، (أنا، الشتاء الماضي، أكثر صمماً من أدمغة الأطفال – الترجمة الأولى، - الشتاء الماضي – أنا الأكثر رعونة من أدمغة الأطفال – الترجمة الثانية)..، (لم تعانِ ما هو أعظم انتصاراً من سوراتي الفوضوية – الترجمة الأولى، لم تألف تخبطات أكثر انتصاراً – الترجمة الثانية). وهكذا يمكن معاينة الكثير من الفوارق. من هنا يصح القول: ما أصعبَ ترجمة الشّعر! وكيف يمكن للناقد العربيّ أن يكتب دراسات عن الشعر المترجم في مواجهة ترجمات متباينة؟.