حكمة متأخرة

ثقافة 2024/01/24
...

  نهى الصراف

دائماً التفاصيل أكثر أهميّة من المتن. هذا الأمر الواضح والثابت في شخصيّة ست وصال؛ معلمة اللغة الإنكليزية في مدرسة السلام الأخضر ! فالسلام ألوان متعددة كما نعرف، أما هذا الأخضر النازل كشلال على سياج مدرستها الابتدائية فكان سلاماً مؤقتاً انبثق بين زمن باعد قليلاً بين حربين طاحنتين. الخوف شعور مرير يمكنه أن يقف لوحده كتكوين كامل بتمام الموت، الخوف من الأشياء التي لم تحدث هو أعظم المخاوف على الإطلاق.
لكن الخوف لا يمنع القدر.. هذه حكمة متأخرة لروح هائمة أتمت رحلتها منذ زمن بعيد لا أتذكره.
كانت ست وصال تستقل باصاً واحداً بخط سير مستقيم للذهاب والإياب من المدرسة، وفي منزلها الواقع على ضفاف بحيرة مزيَّفة ترعى كل أنواع الحشرات تكونت مصادفة من أمطار مواسم شتاءات فائتة، تقضي معظم الساعات المتفضلة من نهار عملها في الترتيب والطبخ ورعاية والدة زوجها التي أقعدها المرض منذ سنوات على كرسي غير متحرك، فالأسرة متواضعة الدخل لا تمتلك ثمن الكرسي المتحرك وهي بذلك تضاعف على أفرادها مشقَّة تحمُّل أعباء الحياة التي كانت تتراكم بمرور السنوات.
حذرها كان قدرها.. الخوف من المجهول أو من حدوث أمر ما لا تتسع له سلّة التوقعات التي امتلأت منذ زمن لم يكن مقدراً له أن يكون طويلاً هو عمر وصال القصير.  كانت السيدة الثلاثينية تتجنب النظر في عيون أصحاب البدلات الزيتونية؛ الذين يخبِّئون قصصاً مرعبة داخل ثنيّات قمصانهم وفي جيوب معاطفهم الثرية، قصص عن أناس تم تغييبهم في أروقة سجون استقبلتهم عند أبوابها مرة واحدة ثم أوصدت عليهم جدرانها المتينة العازلة للصراخ، لتنتهي حياتهم على سطوح باردة ينتقلون بعدها من الباب الخلفي إلى مقابر مجهولة.
لا تريد وصال أن تعرف المزيد من القصص التي لا تعنيها، لهذا فهي ترفض الإنصات للهمس الذي يدور في المنزل والمدرسة وجلسات الصديقات عن مصائر سكان السجون المريبة، طالما أنها تلتزم بطريقها المستقيم إلى جانب حيطان الشارع ولم تفكر بعد في النزول إلى الطريق الوعر.
- "البارحة أخذوا أبو علاء من بيتهم بالليل..  جان بالبيجامة وحتى حافي تصوري"..  تخبرها جارتها وهي تسحب قطعة كليجة من الصحن الموضوع أمامها.
- " اشششش..  ما أريد أعرف"  
- "متعرفين بيت أبو علاء بالركن!"
فتجيبها وصال:  "اسكتي ما أريد أعرف..  شعلينا".
كانت هذه طريقتها لقطع طرف أي حوار يمكن أن يراكم الخوف في خزائن خوفها.
أمضت وصال سنواتها القصيرة وهي تلوك أيامها بغير شهية ثم تبصقها وكأنها لعاب مخلوط بالدم تريد أن تتخلص منه بسرعة حتى لا يراه الآخرون.
لكن الخوف لا يمنع القدر، هذه هي الصفعة الأولى التي نتلقاها بعد أول تجربة خسارة..  صفعة من كف مثقلة بلحم يابس مذاقه مرّ عصي على الهضم، لهذا السبب تحديداً فإننا معرضون لتلقي هذه الصفعة مراراً وتكراراً طالما أن الموقد الذي نطبخ عليه لحوم حياتنا لا يوفر سوى نيراناً متعجلة تشرب ماء الإناء المغلية بسرعة فلا تترك سوى طعم الشياط ومذاق المرارة.
حين تتماهى مع قدرها تشبه هذه السيدة الشابة السلام الفاتر، أخضر فاتر وماصخ الطعم لا يترك فيها سوى شعور بالاستسلام اللذيذ للترقب.. تترقب بزوغ الشمس وجرس بداية الدرس الأول بالحماس الفاتر ذاته التي كانت تترقب فيه ولادة طفلها الأول؛ استسلام كامل للألم بدون أي اعتراض على حكم القدر، الكثير من الألم غير المبرر وغير الإنساني رافقها منذ نعومة سنوات طفولتها، فكانت تتحمل ألم السقوط على الأرض الترابية أثناء اللعب مع رفيقاتها في الشارع.  تشدها إحداهن من قميصها وتدفع بجسدها إلى الوحل فتشعر بثقل الوحل وبرودته وحدة الجرح الفاغر في ركبتيها بعد أن يقصه مشرط البرد، تترك غضبها وحزنها على الأرض لتقف بثبات وكأن شيئاً لم يكن عدا دمعة فاترة تبقى معلقة في زاوية عينها اليسرى، ولا شيء بعد ذلك.
الحياة ما هي سوى انتظار فاتر..  وتجنب الوقوف حجر عثرة في طريق الآخرين، يتوجب علينا أن نقف جانباً لنفسح الطريق لمن هم أحق منا، دائماً يأتي هؤلاء في المقدمة ثم تأتي وصال وما تبقى من أحلامها..  ليست أحلام بالمعنى الواضح لكنها أمنيات ومحاولات لدرء المجهول ثم الخروج بأقل الخسائر..  لكنها عدلت عن رأيها في لحظة ما، اللحظة الأخيرة التي وضعت فيها مصلحتها الشخصية فوق كل اعتبار عندما كانت في طريقها المستقيم المعتاد من المدرسة إلى البيت، اهتزت الأجساد البشريّة التي كانت تشاركها رحلتها داخل الباص الذي تعطل في لحظة زمنيّة مميزة لم تضعها في حسابات خوفها، وقد مال جسده بتطرف إلى الجهة اليمنى إيذاناً بحادث سيكون حديثاً طازجاً لصديقاتها وأفراد أسرتها وهم يتجرعون خبر غيابها بعد مرور ثلاثة أيام بصباحاتها ومساءاتها.
قادها حذرها إلى أن تقفز من الباب الجانبي حتى يتسنى لها الهروب من مصير محتم سيأخذ بقية الركاب إلى مصير مجهول، لكنها عندما نجحت في التنصل من جدران قدرها الحديدية وقفت مذهولة فلم تسعفها خطواتها للابتعاد بمسافة آمنة..  ترنح الباص فاستقر الجانب الأيمن منه على جسدها وهو ينوء بحمل أجساد الركاب الثمانية عشر ومعهم أطر النوافذ الزجاجية وهياكل الحديد الساخنة، حتى تلاشى جسدها تماماً تحت ثقل الأحمال.
سبقها قدرها، فكان الموت ظلاً شاحباً بلا لون ولا طعم..  رحلت كشيء لا قيمة له، تماماً مثل حياتها.