تفاقم ظاهرة التغير المناخي وأولويات العراق في الاستدامة البيئية (2-1)
• أ.د جيهان بابان
بعد انتهاء أعمال مؤتمر الأطراف المناخي " كوب 28 " الذي عقد في "اكسبو" في مدينة دبي (30 تشرين الثاني ولغاية 13 كانون الأول 2023)، تأتي مهمة الاستفادة من مخرجاته عراقياً لدعم سياقات التخفيف والتكيف مع التغير المناخي وتأثيراته في العراق وبما ينسجم مع الخطة الوطنية المقرة التي شكلت الأساس لمباحثات الوفد التفاوضي العراقي.
وقد جاء هذا المؤتمر حصيلة نصف قرن من اهتمام المجتمع الدولي بالمتغيرات البيئية وخاصة المخاطر الناجمة عن ثلاثي التحديات في الازدياد المتسارع في درجة حرارة الكوكب وأنماط الطقس المتطرفة وفقدان التنوع الأحيائي وتلوث الماء والهواء والتربة. ويعتبر العراق أحد البلدان الأكثر ضرراً من التغير المناخي بينما لا تتعدى نسبة مسؤوليته عن مجمل الانبعاثات عالمياً 0.2 %.
وفي هذا السياق؛ شهد "كوب 28" حضوراً دبلوماسياً وسياسياً واقتصادياً وصناعياً وأكاديمياً ومجتمعياً مميزاً شارك فيه 97000 شخص منهم 2456 شخصاً من ذوي العلاقة بقطاع الطاقة والتي نظر إليها البعض باعتبارها نقطة تحول في أن تتحمل شركات الطاقة مسؤوليتها في خفض الانبعاثات وتسريع تحقيق الانتقال المنظم والمنصف والعادل إلى مصادر بديلة مستدامة.
تقييم خفض الانبعاثات
وقد قام المؤتمر بتقييم ما تحقق في خفض الانبعاثات عالمياً وعلى صعيد بناء القدرات للصمود في مواجهة تأثيرات التغير المناخي وضمان التمويل لدعم المشاريع اللازمة، على خلفية أنَّ الوقت مازال متاحاً لمنع الكارثة وتحقيق هدف عدم زيادة درجة حرارة الكوكب عن 1.5 درجة مئوية بشرط أن يتحقق تصفير لانبعاث الغازات الدفيئة عام 2050 على أبعد تقدير وخفض الانبعاثات بنسبة 43% بحلول عام 2030.
عراقياً كان هناك جهد مبكر ومميز في التهيئة والتحضير وبالاعتماد على وثيقة المساهمات المحددة وطنياً تجاه تنفيذ "اتفاقية باريس" لتغير المناخ التي صادق عليها العراق كمساهمة طوعية لتخفيض انبعاثات الغازات الدفيئة في سياق اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بمعدل13 % بحلول عام 2035.
وثيقة وطنية
وحوت الوثيقة خطة للتخفيف والتكيف مع التأثيرات المناخية وأولويات مرتبطة بالأمن المائي والغذائي والتنمية الاقتصادية المستدامة. واتخذت عملية التهيئة اتجاهين، الأول الجانب الرسمي برعاية رئيس الجمهورية في عقد اجتماع خاص للتهيئة لمؤتمر الأطراف والثاني الفني والتفاوضي الذي قامت به (اللجنة الوطنية للتغيرات المناخية) برئاسة وزير البيئة عبر تحديد تركيبة ودور ومهمات الوفد التفاوضي الفني وبالشراكة مع القطاعات الحكومية وخاصة الماء والطاقة والصحة والنقل والإسكان والتعليم العالي ومنظمات المجتمع المدني.
كما ولأول مرة افتتح الجناح العراقي الخاص الذي وفر فضاءً لعقد اللقاءات والمفاوضات وفعاليات أخرى حول متطلبات تحقيق الأمن المناخي في ظروف التنمية المستدامة في العراق.
وكان هدف الوفد التفاوضي هو ضمان الإنصاف والعدالة في مخرجات "كوب 28" كون العراق بلداً متضرراً عبر تحقيق شراكات لحشد الدعم الدولي لتنفيذ الخطة الوطنية العراقية في التكيف والتخفيف والتي شرعت الحكومة ببعضها مثل الاستثمار في إنهاء حرق الغاز المصاحب وتطوير بنية تحتية لاستخدامه وطنياً لتوليد الطاقة الكهربائية الذي هو أحد الأهداف لحكومة الخدمات العراقية الحالية.
تحديات محلية
شخصت كلمة رئيس الجمهورية في مؤتمر الأطراف تشخيصاً لأهم التحديات التي تواجه العراق نتيجة التغير المناخي وخاصة على صعيد المياه والزراعة والطاقة والجهود الوطنية للشروع بسياقات التخفيف والتكيف ودور المجتمع الدولي في دعمها، كون العراق إحدى الدول الأكثر تضرراً في العالم.
البعد العراقي لمخرجات مؤتمر المناخ
يمكن الإحاطة بمخرجات "كوب 28" وسبل التعامل والاستفادة منها عراقياً وتطويعها - لأنها غير ملزمة قانونياً - باتجاه تعميق مسارات التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة من خلال سبعة محاور رئيسة:
أولاً: على صعيد التمويل والدعم المالي لمشاريع التخفيف والتكيف ومتطلبات حماية البشر والطبيعة وتعزيز أنماط العيش المستدامة وصولاً إلى العدالة المناخية في ضمان الحياة الآمنة والمستقرة للمجتمعات المحلية، مع ملاحظة أنَّ الدول الغنية المسؤولة عن الانبعاثات لم تنفذ تعهداتها المالية. وقد تميز هذا المؤتمر عن سابقاته بإطلاق عدة مسارات للتعامل مع هذا الجانب الحيوي بسبب ان أفضل البرامج لن يتم تنفيذها بدون توفر ميزانية كافية. فمن النتائج المهمة هو تفعيل صندوق "الخسائر والأضرار" بقيمة 725 مليون دولار قابلة للزيادة على شكل منح مالية من الدول المتقدمة صناعياً. وهناك اتفاق بأنَّ ما تم جمعه لا يرتقي إلى حجم ما هو مطلوب عملياً بسبب شحة التعهدات وهزالتها، وأيضاً بسبب الحاجة إلى آليات واضحة وشفافة لكيفية التقديم والاستفادة منه وبإشراف مؤسسات دولية و مالية رصينة.
ومن المبادرات المالية الأخرى هي إقامة صندوق استثماري بقيمة 57 مليار دولار لدعم أولويات التصدي للتغير المناخي في مجالات الصحة والأمن الغذائي والطبيعة والإغاثة ودعم صمود المجتمعات المحلية وتحقيق العدالة المناخية وتشكيل شركة مالية خاصة "التيرا" مكرسة للاستثمار المناخي، تدعمها مؤسسات مالية برأسمال وأصول بقيمة 50 مليار دولار. وقد تم التأكيد على ضرورة شفافية التنفيذ ووضع آليات عمل مبتكرة وشروط مرنة في التعامل مع فوائد الديون والتصنيف الائتماني للقروض وضوابط السحب لتحقيق نقلة نوعية في جوانب التمويل والاستثمار، خاصة وأنَّ أحدى مشاكل البلدان النامية هي تصاعد الدين الخارجي والتي تستهلك خدمتها جزءاً هاماً من الدخل الوطني والذي يحد من قدراتها للاستفادة من القروض إلا إذا كانت ميسرة وفوائد رمزية أو على شكل منح.
مقارنة بالمؤتمرات المناخية السابقة وضعت هذه القرارات أساساً معقولاً للاستثمار والتمويل المناخي ولكن تبقى الاستفادة منها تعتمد على الدور الذي ستلعبه الحكومات المتضررة في متابعة آليات التمويل والتوقيتات الزمنية وملاءمة المشاريع المقدمة مثلاً في تضمنها دراسة للجدوى المناخية والاقتصادية وجوانب الإدارة والحوكمة بسبب تعقد آلياتها وزخم طلبات التقديم عليها. وهي إحدى النقاط الجديرة بالمتابعة من قبل وزارة البيئة في العراق وبالتنسيق مع الجهات القطاعية الأخرى من قبل فريق عمل خاص لضمان الاستفادة القصوى من الفرص الاستثمارية المتاحة بما يجعل العراق جاذباً لها.
وسيقوم "كوب 29" الذي سيعقد في باكو 2024 بمتابعة هذه القرارات والذي يجب أن يحضره الوفد العراقي وهو مسلح بحزمة من المشاريع التي تم التقديم عليها ومقترحات لتجعل التمويل أكثر مرونة وشفافية وملاءمة للظروف في العراق. وستكون قضية التمويل المناخي حاضرة أيضاً في اجتماع "السبعة الكبار" المزمع عقده في تشرين الثاني 2024 خاصة انها قدمت تعهداً سابقاً بدعم صندوق الأضرار بمعدل 100 مليار دولار سنوياً لغاية 2025 والإسراع في إقامة الصندوق المالي الأخضر.
ثانياً: بشأن الانتقال من الطاقة الاحفورية إلى مصادر بديلة خضراء والذي شهد نقاشاً حاداً للوصول إلى صيغ مقبولة خاصة من قبل شركات الطاقة الكبرى والبلدان النفطية الريعية في ضرورة الانتقال" المنظم والعادل والمتساوي" إلى مصادر نظيفة خضراء ومتجددة صديقة للبيئة بهدف إزالة الكاربون من النظم الطاقوية عبر إقامة شراكات للانتقال العادل. كما كان هناك قرار بزيادة مساهمة الطاقة النووية أيضاً. عراقياً هناك جوانب مهمة آنية جاذبة للاستثمار والتمويل وبشكل خاص معالجة المياه الملوثة نتيجة استخدامها في إنتاج النفط عبر استخدام التقنيات الحديثة وكأحد مشاريع التخفيف والتكيف المرتبط بمعيشة الملايين من العراقيين في مناطق حارة من الإصابات السرطانية العالية المرتبطة بالتلوث النفطي. وتبقى المساهمة الأكبر هو إنهاء حالة حرق الغاز المصاحب الذي شرعت فيه الحكومة الحالية ورصدت لها التمويل قي ميزانية الثلاث سنوات القادمة وعن طريق الاستثمار.
ثالثاً: المخرجات المتعلقة بالمخاطر التي تهدد الأمن المائي والغذائي نتيجة تصاعد الجفاف والتصحر وندرة المياه وتدهور صحة التربة وهشاشة البنية التحتية في الزراعة مثل الري والنقل والتخزين ونقص الوصول إلى الأسمدة والاستفادة من التحالف العالمي للأمن الغذائي الذي أنشأته مجموعة الدول السبع بالاشتراك مع البنك الدولي. كما أكدت المناقشات على ضرورة توفر الاستثمارات المستدامة والشراكات الدولية والتعاون مع القطاع الخاص لمواجهة تحديات التغير المناخي عبر مشاريع التخفيف والتكيف لزيادة الإنتاجية الزراعية والإدارة الفعالة للموارد المائية. وقد شهد المؤتمر حشداً جيداً للجهود للوصول إلى اتفاقات بشأن قضايا المياه والزراعة والنظم الغذائية المستدامة خاصة وأنها مسؤولة عن نحو ثلث الانبعاثات العالمية في عام 2019 مثل الميثان وأوكسيد النيتروز، وأيضاً في الاستفادة من التطور المتلاحق للتقنيات الخضراء على شكل ابتكارات جديدة كأنظمة الري الحديثة والزراعة المائية. وكان هناك تأكيد أيضاً على أهمية الحفاظ على التنوع البايولوجي والموائل البرية واستعادة مكونات النظم البيئية الطبيعية. وشخص الجفاف وقلة التساقط المطري وفقدان الأراضي الزراعية وشحة المياه كأحد التحديات الكبرى التي تواجه العالم والتي تتطلب أساليب مبتكرة في استخدام التكنولوجيا الخضراء ترافقها الإدارة الفعالة للموارد المائية. وقد وقعت 152 دولة على اتفاق مكرس لمعالجة ندرة المياه والأمن الغذائي. كما انضمت 33 دولة إلى اتفاقية "تحدي استعادة المياه العذبة" من أجل حماية واستعادة 30% من نظم المياه العذبة.
وفي العراق حظي الأمن المائي والغذائي باهتمام الحكومة، منها إقامة سدود لحصاد مياه الأمطار والسيول واتباع اقتصاد المياه الدائري في التعامل مع مياه الصرف الصحي والبزل واستخدامها في الزراعة وحماية المياه الجوفية باعتباره خزيناً ستراتيجياً وبضمنها إقليم كردستان وعلى توفير المياه العذبة والخالية من التلوث البايولوجي والكيمياوي وحماية الأنهار والمسطحات المائية التي تحولت في بعض المحافظات مكباً للنفايات ولمياه الصرف الصحي. ويرتبط التقدم في حماية النظم المائية خطوة على طريق تنفيذ الهدف السادس من أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة. ومن المهم أيضاً تهيئة مشاريع تنسجم مع الأهداف الوطنية العراقية في مجال المياه والزراعة جاذبة للاستثمار والدعم المالي وبالتعاون مع وزارتي الزراعة والموارد المائية.
رابعاً: لأول مرة في مؤتمرات الأطراف خُصص يوم حول تأثير التغير المناخي في الصحة العامة تعتمد ستراتيجية ثلاثية الأبعاد (الوقاية والتأهب والاستجابة) والتغطية الصحية الشاملة وبمشاركة واسعة توجت باتفاق دولي وقع عليه 123 بلداً من ضمنها العراق لدعم الاستثمار وتمويل البرامج الصحية الوطنية لمعالجة الأضرار الناجمة عن تلوث الهواء وارتفاع نسبة الملوثات الكيمياوية والبايولوجية في المياه وامتداد فترة المواسم الخطرة التي يزيد فيها انتشار الأمراض الفتاكة مثل الملاريا وحمى الضنك الفيروسي. ومن المؤشرات المهمة صحياً هو تراجع الموائل الطبيعية وتقلص الفجوة بين البشر والحيوانات وتزايد معدلات انتشار الأمراض ذات المنشأ الحيواني مثل السار وكورونا وانفلونزا الطيور. وفي سياق تقوية الأنظمة الصحية الوطنية اعطي لمنظومة الرعاية الصحية الأولية الدور الأساس في الاستجابة للتحديات الصحية الناتجة عن التغير المناخي ومنها العواصف الغبارية والترابية وأيضاً في دعم الصحة الإنجابية للأم والطفل والتغذية وتحسين الوصول إلى خدمات تنظيم الأسرة. عراقياً، هناك حاجة لتعديل وثيقة المساهمات المحددة وطنياً تجاه تنفيذ اتفاق باريس لتغير المناخ الوطنية لإضافة البعد الصحي وعلى شكل مشاريع محددة صغيرة إلى متوسطة الحجم جاذبة للتمويل والاستثمار وبالتنسيق مع وزارة الصحة.
•خبيرة في شؤون البيئة والتغير المناخي وهندسة الطاقة المتجددة
• عضو الوفد الرئاسي العراقي إلى مؤتمر الأطراف المناخي {كوب 28}