العزلة والموت الرمزيّ في «خمسة ميل»
حسن الكعبي
يحتفي السرد العراقيّ بفكرة الموت والخضوع لهيمنتها، لأسباب معروفة تماما تفرضها حتميات واقع مكتظ بالحروب، وبإزاء ذلك تعد الحرب أهم أداة تحيل لواقعة الموت أو تقترن بها، أي أن واقعة الموت تحضر بوصفها (حيلة الطبيعة لضمان المزيد من وفرة الحياة للآخرين) على حد تعبير (جوته)، بمعنى أن المتخيل السردي استند إلى توصيفات (جوته) يتمثل الموت كواقعة بيولوجية تمنح للشخصيات المؤطرة سرديا وفرة من الحياة ضمن امتدادات السرد ومرتسماته التخيليّة، وعلى هذه الواقعة – أيضا- ستتحدد مصائر الشخصيات في هذا المتخيل السردي.
لكن يندر في السّرد العراقي أو العربي في سياق تعاطيه مع فكرة الموت، أن يرتحل بها إلى مديات تتخطى حدود تمثيل واقعة الموت كحتمية بيولوجية إلى التعاطي معها كإشكالية فكريّة ترتبط بجذور فلسفيّة، تتقاطع مع منظورات الوجودية التي تحتل واقعة الموت ضمنها مكانة مهمة، فالوجودية كما يعبر عنها (جاك شورون) هي (فلسفة الحياة) التي يعد الموت أو فكرة الموت إحدى أهم جذورها، فالرؤية الوجوديّة للموت تتضمن المغزى الخاص الذي يتخذه الموت بالنسبة للإنسان الذي يعرف وحده من بين المخلوقات الحية جميعاً، أنَّ عليه أنْ يموت وحده أيضا.
هذه الرؤية المتخارجة عن تصورات (سارتر) تتعارض مع المنظور البيولوجي للموت فـ (سارتر) يرى «أنَّ الموت أبدا ليس ذلك الذي يمنح المعنى للحياة، وإنَّما هو على العكس من ذلك فهو الذي يحرم الحياة من كل مغزى، وإذا كان علينا أنْ نموت فأنَّ حياتنا تخلو من المعنى».
ففي الموت يتم الشعور «بالفردية إلى أقصى درجة إذ يشعر من يموت أنَّهُ يموت وحده لا يشاركه في موته أحد ولا يستطيع أحد أنْ يحمل عنه عبء موته».
هذا المتكئ سمح بتمظهرات المقولة التأسيسيّة في الفكر الوجودي ونقصد بها مقولة: «الجحيم هو الآخرون» والتي قصد بها سارتر إننا: «…عندما نفكر في أنفسنا، وعندما نحاول أنْ نعرف أنفسنا… فنحن نستخدم معرفتنا لذاتنا التي يعرفها الآخرون مسبقا عنا».
وبعبارة أخرى، إذا لم نكن معروفين، أو إذا لم يتم التحقق من خصالنا الفردية وأحلامنا والحصول على موافقة الآخرين عليها، فإننا غالبا ما نشعر بأنَّ وجودنا له معنى أقل أو حتى أنَّه لا قيمة له.
استنادا إلى أقوال سارتر والتي تُعَدُّ من المقولات المركزيّة للتفكير الوجودي والتي تتصدى لمفهوم وضع الإنسان وعلاقته بالآخر الاجتماعي، فإنَّ هذه الأقوال تؤكد وجود حالة صداميه بين الأنا والآخر من خلال محاولة الأنا في التعرف على ذاتها من خلال انطباع الآخرين عنها، وما يصدر من انطباع الآخر يكون بمثابة جحيم الأنا؛ لأنَّها في إطار هذا التعرف تشعر أنَّ انطباعاتها وخصالها الفردية لن تعود مطابقة لتصورات الأنا، فالآخر هو الذي يحدد ملامح الأنا وسماتها وخصالها ولذلك تشعر الأنا بجحيم هذا التصور، ومن ثم فان هذا التصور يفضي إلى تمجيد مفهوم العزلة.
تمتثل تصورات (اميل سيوران) لمهيمنات هذه الأفكار، لكن ضمن مسار يمنح الفكرة فرادة نوعية، فهي- أي الفكرة - نوع من الاستبصار عبر الوجود والوعي والعزلة مع الذات، والإحساس بها إزاء الآخرين والأشياء.
وعبر هذا الاستبصار طور سيوران مفهوم (قوة الاستقلال عن الآخر) في مساق يجعل المفهوم أهم الحلول في معالجة الاشكاليات التي يواجهها الإنسان المعاصر. وفي سياق هذا المفهوم تقترن العزلة بالتقديس وبكونها عقيدة ثابته غير قابلة للذوبان أو الزوال، لأنها تنفتح على المشكلة الإنسانيّة بابعادها المأساوية الكونيّة، وهو ما يجعله يتعامل مع العزلة بكونها (فلسفة الانفصال عن الآخرين، والصفاء مع الذات). فالعزلة عند سيروان تتخذ بعدها التقديسي الخلاق، وهو ما يجعله يتفق مع مارسيل بروست في مقولته الشهيرة (الفن يقدس العزلة)، ولذلك فإنَّ سيروان يقيم اتصاله وتصوراته مع الفلاسفة الذين يمجدون العزلة بوصفها مفهوما مقدسا وخلاقا.
ترتبط العزلة ورفض الآخر سواء عند (سارتر أو سيوران) بفكرة الموت، لكن في مساق مفارق للموت بالمعنى البيولوجي، وهو ما سنسميه الموت الرمزي، الذي سيكون متكئا مفاهيميا نتحرك من خلاله في مقاربة مجموعة (ضياع في خمسة ميل) للقاص حسن السلمان.
في منظوره للعزلة واستنادا إلى مرسلاته النصية في مجموعته (ضياع في خمسة ميل) فأن حسن السلمان يتشرب تلك المنظورات الفلسفية – التي سقناها كمثابات نظرية تمهيدا لمقاربتنا الاجرائية - ويحولها فنيا بحسب المنظور التناصي لـ (جوليا كريستفيا)، لكن هذا التشرب والتحويل والارتحال بمجمل المنظورات الفلسفية لا يتنزل في مشروع السلمان من ضمن المستويات الاجترارية التي تقصدها (كريستفيا)، وانما ضمن المنظور (الحواري الباختيني) الذي يرى «أن العالم مليء بكلمات الآخرين».
العزلة وتقديسها هي النسق المهيمن في قصص المجموعة، وهي الحل الذي يقترحه القاص كشرط وجودي لخلاص شخصياته من اشكالية التصالح مع الآخر واشتراطاته، والعزلة عند القاص تصل إلى حدود التقديس الذي يصل بدوره إلى حدود من تعصب وحماس يدفع بالشخصيات إلى الموت بالمعنى الفلسفي والذي اصطلحنا عليه بـ (الموت الرمزي) كمعادل لمفهوم العزلة، ولربما أن القاص لفرط عنايته ببناء الشخصيات، فقد أحبها ولم يتمكن من احتمال فكرة موتها - فكما يقول مارسيل جرائيل» ترجع عدم قدرة الإنسان على تقبل الموت إلى أنَّ المرء لا يستطيع حقا أنْ يحب دون أنْ يتمنى الخلود لمن يحبه».
ذلك النوع من الحب للشخصيات المتخلقة سرديا، والذي جعل الروائي (ماركيز) يبكي موت العقيد اورليانو في الرواية الشهيرة (مائة عام من العزلة).
إن محاولة انقاذ الشخصيات من الموت الفعلي في مجموعة السلمان دفعه إلى توظيفات فلسفية وتقانات فنية تسمح بهذا الانقاذ، بمعنى أن القاص اعتمد منظورات فلسفية كفكرة العود الأبدي عند (نيتشه) والموروث الصوفيّ للحلولية والفانتازيا وما يحف بها من ترميزات واستعارات كخوادم فنية، لجعل فكرة التحول فكرة معقولة، بل أن فكرة التحول المستحيل والعجائبيّ في قصص السلمان كان يجب أن تكون كذلك ولا شيء
غيره.
ففي قصة (غزالة في مطلع الفجر) يسرد القاص حكاية فتاة تهرب مع حبيبها فيعمد أخوتها إلى قتلها، لكنها تتحول إلى غزالة (كانت الغزالة ترنو إليهم وقد تحول قرناها إلى أصبعين من بلور- ص35)، وفي قصة (محاولة فاشلة لمصافحة العالم) وهي تناص معكوس بقصدية مع رواية (المسخ) لـ (فرانز كاقكا) يروي القاص حكاية صرصار يتحول إلى إنسان وعندما يتكشف له الوجه النفاقي لعالم الإنسان يعود إلى كينونته الأولى، وإلى عالمه الذي خرج منه - أي إلى ثقبه القديم - (مد يده للمسه فقفز الصرصار إلى ثقبه القديم - ص10).
هذا التحول للشخصيات لم يكن ليحدث لولا دخول الفنتازيا كوظيفة لانتاج دلالات تسمح بفهم الواقع وتأويله فهي على حد تعبير - ابتر - مدخل لفهم الواقع.
وفي نماذج أخرى كقصة (ضياع في خمسة ميل) التي تنتهي بالغرق المبهم لجندي يهجر عالمه، ويندمج في آخر ضاج بالقبحيات، أو في قضة (الهروب إلى المتاهة) التي تنتهي بتيه رجل تلاحقه رائحة مقرفة لا تنتهي إلا بذلك التيه وشعوره بتفسخ أعضاءه.
وفي نماذج أخرى فأن شخصيات القصص جميعها ميتة بالكامل، لكن - وكما سبق وأشرنا - فأن حب القاص لشخصياته جعله لا يستطيع أن يحتمل موتها فدفعها إلى نفق من العزلة الخانقة التي لن تسمح لها بالعودة مرة أخرى للتصالح مع العالم، وهو ما يكمن وراء اصطلاحنا على نسق العزلة في قصص السلمان بالموت الرمزي.
ما يحسب للقاص حسن السلمان أنه تمكن من أن يوظف التقانات الفنيّة، وخصوصا الفنتازيا والاستعارات ببراعة، بحيث أنه جعلها تقول دوماً ما يفيض عن اللغة ومن دون أن تقع في دائرة الانهاك - بحسب تعبير نيتشه- بحيث قد تضطرّ – أي الاستعارة في حال وقوعها في حالة الانهاك - إلى الصمت أو الاستقالة، كما يحدث لأغلب السرديات العراقيّة التي تبالغ في استعمالات الفنتازيا وما يترشح عنها من استعارات ميتة بحسب تعبيرات (جاك دريدا) الذي قوض هذه النوعية من الاستعارات فقد انتقد دريدا مسألة الاستعمال المشطّ للاستعارة إلى درجة انهاكها وتفقيرها.
إن الاستعارة عند السلمان هي بالخلاف من ذلك، فهي تتحول إلى قدرة لغويّة على «إعادة وصف الواقع» كما يقول (بول ريكور) الذي يناقض دريدا من خلال اضفاء صفة الحياة على الاستعارة بوصفه لها بالاستعارة الحية.
إن قصص السلمان تساحل على ضفاف ما بعد الحداثة ومستحثاتها، ووضع الإنسان ضمنها في مدار الفردانية، وظهور المجتمع النرجسي الذي يقدس العزلة ويؤكد على قيم التباعد والانفصال عن المجتمع، وهذا ما يعني سيادة الثقافة النرجسية باعتبارها كما يقول (جيل ليبوفتسكي): وعي جديد للغاية وبنية عضويّة في الشخصيّة ما بعد الحداثية، لقد ظهرت النرجسيّة في الواقع من الهجر المعمم للقيم والغايات الاجتماعية، والراجع إلى عملية الشّخصنة.
خلاصة ما نرمي إليه أن قصص السلمان في هذا المساق من المساحلة على ضفاف الأفكار والأنظمة الفلسفية، فأن القاص إنما يسعى من خلالها للارتحال بقضاياه التي تدور في مجال المحنة الانطولوجية إلى مجال يشتق له رقعة كونية يؤسس عليها تصوراته، واتصاله بمجاله المحلي هو نوع من الحيل السردية لاضفاء الواقعية على بعض القصص التي تعالج اشكاليات مفاهيمية، لا يمكن أن تحدث إلا ضمن بيئة ومكان محدد، ولا يمكن أن تحدث في غيره، وهذا ما يجعل من المكان في السرد أحد العناصر المهمة في بناء الشخصية وتحديد هويتها، أما في غالبية قصص المجموعة، فالمكان لم يعد ضروريا في بناء الشخصيّة واحتضان الحدث، لأن الحكاية انتهت بنجاح القاص في صناعة أحداث تتعالى على المكان، لأنها باختصار شديد يمكن أن تحدث في كل مكان من العالم.