عبد الغفار العطوي
ما العلاقة بين الحب والبكاء؟ الإنثربولوجية الأمريكية هيلين فيشر في كتابها (لماذا نحب؟) طبيعة الحب وكيمياؤه تقودنا نحو طرق غامضة في دراسة ما هو الحب، لا تصل بنا إلى قناعة الحب الباكي أو المبكي، إلا في الاقتناع بسؤال وليم شكسبير: ما الحب؟ وهو سؤال عجيب ومذهل، فتقول إلى القارئ (أحاول أن أجيب عن هذا السؤال الذي يبدو ظاهرياً دون إجابة! ويمكن أن نعتبر الوقوع في الحب بداية ميتافيزيقا الحب الذي ينطوي على سلسلة من الاستجابات التي توقظ في من يحب شهية البكاء التي تزدحم الدموع فيها كظاهرة بشرية عالميّة (تاريخ البكاء توم لوتز). فبداية الحب هو في شهوة الحب الجامحة التي تعصف بالكائن الواقع في الحب، ليتحول إلى نيران تتأجج في أنحاء الجسد، وهي شهوة يمر بها كل من خاض تجربة الحب، ولعل ما استنتجته فيشر في دراساتها شيء مذهل يستحق الثناء، لأنها تتحدث عن الصور المتعددة عن الحب حيث بوسع الحب الرومانتيكي أن يأخذ أشكالا عدة.
بوسعك أن تستيقظ وحيداً في منتصف الليل فتستقبلك مشاعر اليأس و الاحباط ، و من الطريف التقاء الحب بين الإنسان والحيوانات في تحوله إلى مغناطيسية جذب لا إرادية أو اندفاع عاصف في جنون أو بهجة، وهو الحب الذي يتعامل مع الجسد مثل التكاثر بين الحيوانات، مظاهره الهيجان والهلع، كأنه مجرد عاطفة تتحرك، هنا نلمس نوبات البكاء التي تكشف عن روح مغامرة في اللامعقول ترسمها الدموع بكل مناخاتها على الجسد المحب فيدعى الجسد الباكي، فالدموع هي ما اطلق عليه إبراهام ورب جراح العيون في لندن شطيرة السوائل التي تميز الإنسان عن سائر المخلوقات باعتباره الباكي بالدموع الحقيقية التي تمثل سايكولوجيا الدموع في نظر توم لوتز، فيضعها كمفهوم بمكان مصطلح ارسطو (التطهير) للإشارة للتنقية، أو للإشارة إلى شعور عام بالصفاء أو النظافة. ولعل السؤال الشكسبيري الملح دوماً في حياة من جرب الحب الرومانتيكي بالذات، نجد له صدى مدوياً في فلسفة آرثر شوبنهاور في (ميتافيزيقا الحب) الفيلسوف المتشائم، وسيكولوجيا الرغبة، العبثي، الذي جسد في كتابه الشهير (العالم كإرادة وتمثل) تفسيراً للغز الوجود رفع به رداء الشقاء القاتم عن الشرط الإنساني.
ومن اللافت للنظر اهتمام تاريخ الفلسفة بحياة شوبنهاور على حساب فلسفته، لهذا حظيت تجاربه في (ميتافيزيقا الحب) بكثير من الدراسة والتأمل، لعل كتابته في هذا المجال الغريب زادت في الإقبال على آرائه فيها، لكونه امتلك صفة الفيلسوف الأول في التشاؤم، لهذا اعتبر الحب مجرد وهم. من جهة فلسفته التي تسمى أيضاً بفلسفة الإرادة وظف لصالح العالم الإرادة و التمثل لمبدأ السبب الكافي، ولكنه في الكتابة عن الحب كان يعتمد في كتابته هنا على تجاربه اليومية، تاركاً الفلسفة لعبقريته التي لم يسع عمره القصير في استكمالها.
من هنا يمكننا أن نرى رؤيته للحب بعيدة عن فلسفته القوية في انتظامها في اتساقها الفلسفي، انقاد بذاته طواعية في مشوار الحب، وهو بذلك لم يخرج عن دائرة عبثيته وتشاؤمه، فهو يقول في بعض تصوراته عن الحب: في الواقع، تثبت لنا التجربة، دون أن تتكرر كل يوم، إن ما يبدو لنا مألوفاً ومعتاداً مثل جنوح على أشده أو ميل مشط، لكنه قابل لأن تحكم السيطرة عليه. ويقول أيضاً من المؤكد إن كل حالة حب، ومهما كان مطهرها الأثيري الذي تزدان به، لها جذر متأصل في الغريزة الجنسية، أو لنغلو بالقول إنها ليست شيئاً آخر عدا غريزة جنسية محتومة ومحددة بوضوح سلفاً، وهو ما بينته هيلين فيشر في موضوع (الفرحة الغامرة الأولى) في: من نختار، قبل بدء في لماذا نحب؟ تطور الحب الرومانتيكي الذي يساهم (تاريخ البكاء) في تحويله إلى مغامرة تراجيدي كوميدي، لأن مبدأ الاختيار في قرعة من نحب لا ضابط لها، تنشأ اعتباطية.
ولعل من الممكن أن يلعب الرجال دور البطولة في عملية الاختيار، لأن فرصة الحب الرومانتيكي هي آخر قطاف الحب، أما بالنسبة للنساء نجد أن الجنس العارض غالباً ما يختلف منه لدى الرجال، فحينما يسعى الرجال لحب قصير الأمد، فإنهم يميلون لاختيار النساء الأقل في نواح عديدة، لكن تاريخ البكاء يتدخل في أغلب العلاقات التي يتورط بها العشاق، وإن كان الرجال هم المبادرين. عند النساء البكاء صديقهن الحميم في كل شاردة وواردة، لهذا فإنهن يتأخرن في الحب الدائم، ويشحن عن التجارب السريعة، لأن هناك ستنمو عواصف الدموع على أنواعها، لكن المهم كما يذهب توم لوتز هو ما وراء الدموع، بعد أن يسأل ما الدموع؟ حيث البكاء وذرف الدموع ظاهرة بشرية عالمية، فعبر التاريخ، وفي كل ثقافة تذرف الدموع انفعالاً، لا بد لكل شخص أن يبكي في وقت ما، وفي أي مكان، لكن للدموع قيمة واتجاهاً عاطفياً تقوده لفتة المرء المحب بالذات، لأن البكاء هنا موجه لغاية ومقصد، فلا بد أن نعي ما وراء الدموع، بسبب أن للدموع ألواناً حسب تجارب الحب، فدموع اللذة، ودموع النعمة، ودموع الخيبة والانتقام، كلها تنتمي لمضارب حالات الحب، ويرتفع البكاء إلى نحيب وصراخ وعويل كلما اشتدت فاعلية الحب، ونجاح توم لوتز في كتاب (تاريخ البكاء) يعطينا فرصة لقراءته وحده، بينما كتاب شوبنهاور (ميتافيزيقا الحب) يؤهل لنا القدرة الفلسفية المعتمة على التفكير بالعودة نحو هيلين فيشر في دراساتها، كي نفهم لم فضل الإنسان الوقوع في الحب (خاصة الحب الرومانتيكي). على ما يبدو أن الدراسات الإنثربولوجية لفيشر المعتمدة على عمليات الاحصاءات والاستنتاجات العلمية الدقيقة، في تعقب مفهوم الحب في تطوره التاريخي يبرز أن سؤال شكسبير ما الحب؟
يحتاج الجمع بين قراءة ميتافيزيقا الحب وتاريخ البكاء، فتجارب الحب لدى الإنسان خاضت تاريخاً من المعاناة وسالت معها أنهار من الدموع، وتعالت صيحات النحيب وشهقات الألم نتيجة الحب الباكي والحب المبكي، لا تقل تلك التجارب خطورة عن تجارب العلماء في تاريخ العلم، فالحرية الإنسانية التي ارتبطت بتطوره الفلسفي والعلمي لم تنشأ عن فراغ، بل كان أحد أعمدتها لماذا نحب؟