د. صباح التميمي
حين تمارس الذات الكتابة بالتصوّف وتكون في دائرته، فإنها- لا سيّما في تجربة المسعودي - لا تتخذ منه - أعني التصوف - آلة تشكيل جماليّة خاوية فحسب، فذاك يفرغها من عمقها الروحي وبعدها السيكولوجي، هي عند عمار المسعودي طريقة عيش قبل أن تكون محض ممارسة كتابية محاكاتيّة لنماذج الحقيقة الصوفيَّة الموروثة، كما تفعل معظم كتابات التصوف الفنيّة اليوم، فثنائية الشيخ/ المريد عند المسعودي تعيش معه في كل تفاصيله اليومية.
فالذي يخاطبُ الشجرةَ والنهرَ ووردَ الباقلاءِ، ويُغنِّي مع بلابل بساتينِه، ويجري مع سواقيه، ويخضرُّ مع شتلاتِه، ويتباسقُ مع نخيلِه هو والذي يخاطبُه )الآخر المبهم دائم الحضور)، يكون أقرب لبراءة الصوفي المريد الذي لم تُلوِّثُه قواميسُ المدينة ومعانيها الضيّقة، فتحيلُه إلى ذاتٍ راكضةٍ خلفَ سرابات التشيؤ والتصيُّر اللاجدوائي، فهو في كتابتِه يُمارسُ استدعاءً لها بكلِّ تفاصيلِها، ويتنفّسُ معناها بكلِّ تمظهراتِه، مستعيناً باللغة وعلاماتِها لخلقِ حالةٍ تصوّفٍ فنيّةٍ بالكتابة؛ ولأنّه يعيشها جوّانيّاً فإنَّ كتابته تكون أكثر التصاقاً بالحقيقية الصوفيّة، فيقدّمُها بطريقة الحقيقة الشعريّة طازجةً لا تمايزَ بينَها وبين الكتابة الصوفيّة التراثيّة من جهة، ومفارقة لها، صانعة هُويّة خاصة من جهة
أخرى.
وقد يتبادر للذهن سؤال جوهري هنا: إذا كانت الحقيقة الصوفيّة ممارسة تتمتّع بثبات طقوسي ما، ولها قاموس كتابة هو الآخر ينتمي لنسق الثبات، فكيف نقول بحركية عمار المسعودي التي يُشير لها عنوان مقاربتنا هذه في مفردتي: )الطازجة) و)الحداثة)؟
فإذا قلنا بثباتيته المتأتية من انتمائِه روحيّاً وكتابيّاً لنسق الثبات هذا، قلنا بتقليديته وموتِ كتابتِه وحلولها في الماضي، وإذا قلنا بحركيتِه وحداثتِه، فلابدَّ لنا أنْ نتلمّس ذلك عمليّاً إجرائيّاً في فضاءات الكتابة عنده، عبر فحص قاموسه الشعري، وعلاماته السيميائيّة وسيرورتها الدلاليّة عموديّاً وأفقيّاً.
إنّ الذي يتفحّص مدوّنة عمار المسعودي يلمس – بصورة مباشرة - علامات فاعلة تمنح نصوصه هُويتها الخاصة التي تجعلها منتمية لقاموس الحقيقة الصوفيّة بصوت جديد، لا بصدى يتردّد.. ثم يذوي في قعر الثبات؛ وهذا سرّ من أسرار لحظية الكتابة عنده، فهي طازجة، يومية، آنية، متجدّدة، تكرّس قاموس علامات مُستدعاة من ماضي تجارب الكتابات الصوفيّة وتراثها الفخم، لكن بسيناريو الحاضر؛ ما يجعل حداثة صوفيّته طازجة دائماً، لأنّه ببساطة يعمل على تحويل اليومي المحلّي المعيش إلى تجربة عامة، عبر توظيف معجم من العلامات الصوفيّة ذات البعد الممتد في عمق الذاكرة العامة، وحين تحضر تلك العلامات محمّلة بحمولات الماضي لا تبدو نافرة عن نص الحاضر في كتابة المسعودي، بل تدخل في حالات اندماج وحلول وتداخل وتعالق تُعدّل من خطِّ زمنيتها، فتَعبُرُ الماضي إلى حاضر جديد.
وبهذا تنجح التجربة في تجاوز الماضي، وتنهض بعمليات تحديث ذاتية تجعلها أكثر توتّراً واختلافاً رؤيويّاً يبتعد بها عن التحديث السطحي القِشْرِي الذي يكتفي بإعادة إنتاج الماضي بطريقة )الاجترار)، وهذا ما لا نجده في كتابة المسعودي، فحضور العلامات الصوفيّة فيها، لا يأتي على نحو منحاز للماضي، بل متداخل مع الحاضر بطريقة تنمحي معها ماضويته! لنطالع معاً هذا النص:
)الخوف يقبضني، والرجاء يبسطني، والحقيقة تجمعني، والحق يفرّقني، إذا قبضني بالخوف أفناني عنّي، وإذا بسطني بالرجاء ردّني عليّ، وإذا أجمعني بالحقيقة أحضرني، وإذا فرّقني بالحق أشهدني غيري، فغطاني عنه، فهو في كلِّ ذلك محرّكي غير مسكّني، وموحشي غير مؤنسي بحضوري لذوق طعم وجودي، فليته أفناني عنّي فمتعّني، أو غيّبني عنّي فروّحني)
هذا النص ليس للمسعودي، هو للمتصوّف الكبير )الجنيد)، لكنّ استدعاءه في قراءتنا هذه نقطة محورية للوصول إلى هدفها، عبر مسك التعالقات الحاصلة بين مدوّنات الحقيقة الصوفية، ومدوّنة المسعودي، فهو – أعني المسعودي- يقول في نص له:
- إن وجدني في البياض
لامني.
- إن وجدني في السواد لامني.
- إن عالنته لامني أو ساررته لامني.
- إن وجدني على الأغصان
لامني .
- إن وجدني محصيا ألوانه من على لوحة التفاح لامني أو من على خده الحرير لامني أو من علاماته على الماء الذي لا علامات له لامني.
- إن وجدني أعلى الري
لامني أو أعلى العطش لامني أو أعلى الحصاة لامني أو بالقرب من الصفات لامني.
- يقول: لا تكتبني فأنا في محوك.
إن وجدني أرقب السماء
قال لي: إنها زرقتي
وتنافسني عليها.
إن صادفني في الحقول
قال: أخرج عنها؛ إنها
خضرتي وحسب.
إن مر بي وأنا انظر إلى الزهور أو أدور على الحدائق؛ أخذ منها كلّ فراشاتِها وتركني من دون رفيف.
على البحرِ لا يريدني
على السهل لا يرغب بي
على الجبال ويهزأُ من صعودي
على الساحل يراني ويهزأ من
فكرة جيدة عن إبحاري.
يلتقي النصّان )نص الجنيد) و)نص المسعودي) في آلية من آليات تشكيل بنية النص المميّزة لهُوّيته، وهي )لعبة العلامات الضمائرية)، فكلا النصّين، يتكئ على شبكة )ضمائر) تمثّل )علامات سيميائية) دالة، غير أنّها في نص )الجنيد) واضحة الإحالة، في حين أنّها في نص )المسعودي) مُضَبَّبَة مُضلِّلَة، إذ لا تعمل هذه العلامات )الضمائر) على تقديم دلالات جاهزة، بل تحاول أن تخلق تشويشاً على جهة التلقّي، فهي لا تُحيل على سيرورة دلالية واضحة، كما في حالة )الجنيد)، الذي تحوّلت العلامة عنده، إلى متوالية صوتية ثابتة الإحالة، فضمير )الغائب) المهيمن على نصّه يُشير إلى الذات الإلهية على نحو مباشر؛ لأنّ دائرة لعبة المعنى عنده مكشوفة، لانتمائها إلى قاموس ثابت، بينما يجد المتلقي نفسه في حالة )المسعودي) ضائعاً، بين حزمة دلالات مفتوحة، فهل يخاطب )الإله)؟ أم المخاطب هنا )آخر) مقصود بعينه، يتحكّم بإنتاجية النص، وهو المحرّك الأول لسبب خلقِه؟ وهل يُخاطب عاقلاً؟ أم يخاطب معنىً كالدهر مثلاً؟ احتمالات كثيرة! وهنا تكمن اللعبة الحقيقية، أن لا تُقدّم معناك على طبقٍ من تأويل جاهزٍ للمتلقّي، النص الذي يُقلق التلقي هو النص المثير، هو النص الذي لا يسمح باختراقه بسهولة، هو النص الذي لا يأتي معلّباً فيُعرّض معناه للفساد، بعد حالة من حالات سوء الفهم، أو التأويل، وهذا ما يُميّز كتابة المسعودي عن غيره من الشائع.