حيدر علي الأسدي
كنا قد سمعنا عن مصطلح (السرقات الأدبيّة) وما يتداخل معه من مفاهيم عديدة تتعلق بالتشابه والتوارد والتناص وغيرها، ورغم وجود هذه الظاهرة قدم الأدب ذاته وتحولاته التي جرت مع التغيرات الحياتيّة والفكريّة في المجتمعات، إلا أنه في ظل الفوضى العارمة التي نعيش مع غياب كبير للقيم والانساق التنظيميّة للعمل الثقافيّ والانفلات الكبير مع موجة التواصل الاجتماعي والنشر المجاني والهوس بالشهرة (الترند)، دخلت قيماً جديدة مشوهة، تتصل بالسلوكيات الثقافيّة، وأعني هنا تحول النتاج الفكري أو الأدبي (نصوص، أعمال فنية، نتاجات أخرى، مؤلفات) إلى سلع اقتصادية (يعرضها) صاحبها بشكل مجاني لأشباه المثقفين أو غير المثقفين، بالأصل يحاول أن يصنع له أسما أو شهرة مجانية عن طريق شراء النصوص- للأمانة هذا الأمر ليس في مجال الثقافة وحسب، بل حتى في مجال العلم، إذ بات هناك العديد من المكاتب التجارية لكتابة البحوث والرسائل والاطاريح لطلبة فاشلين، لا يملكون سوى المال غاية في الحصول على لقب (الدكتور). هذا الهوس أصبح سمة كبيرة في مجتمعنا المعاصر، بخاصة أن مصدات الكشف وحفلات المجاملة الجماهيريّة العامة تمنع الكشف والتمييز ما بين الغث والسمين.. من الطرافة أن أحد المثقفين كتب ذات مرة كتاباً باسم (فتاة) شابة وجميلة لا تفقه من الكتابة أي شيء، فراح العديد من النقاد يكتبون دراساتهم ومقالاتهم النقديّة عن هذا الكتاب الذي نشر باسم فتاة، ولكنه كتب بقلم ذكوري، العديد من المثقفين ومن دون أدنى شك- وهذا الأمر واضح للمشتغلين بهذه الحقول الثقافيّة- يعمدون إلى تقديم بعض نتاجاتهم لآخرين بمقابل مكاسب ماديّة، وبعضهم يكتب بالمجان من أجل قضايا أخرى، كأن تكون علاقات مصالح أو ما شابه ذلك، كما أن البعض قد يلجأ لهذا الأسلوب بسبب العوز المادي-على حد تعبيرهم- في العديد من المحافل والمكاشفات التي قد وصل الأمر أن ظهر بعضها على وسائل الإعلام!
وكانت الخلافات دائما مفترق الطرق التي تكشف مثل هذه القصص، فما أن يجري خلافاً بين هذا وذاك، حتى تكشف الحقائق، ساعد وساهم بصورة كبيرة على ذلك مجانية النشر في منصات التواصل الاجتماعي، وكذلك التزايد المفرط لدور النشر غير الرصينة في بلداننا العربية التي تبحث عن الربح المادي فقط، وعلى حساب القيمة الفكريّة والاجتماعية للمنتج الثقافي، خاصة أن مثل هذه الكتب والنصوص تكتب بعجالة وبمستويات هزيلة وسطحية، إذ أن هدف كاتبها (التكسب المادي)، وهدف متقمصها هو أن يقال عنه إنه (مؤلف وصاحب منتج أدبيّ أو فنيّ)، ولو أن هذه الظاهرة غير موجودة لما تطرق لها العديد من المفكرين والمثقفين في محافل ومواقف عديدة، بل حتى أن بعضهم جسدها في كتابات ومؤلفات وإشارات واضحة. وهذا يذكرنا بالكاتب يوسف معاطي في فيلمه الكوميدي (مرجان أحمد مرجان) بطولة الفنان عادل أحمد، إذ أشار إلى المشكلات الاجتماعية للمجتمع المصري على وجه الخصوص والعربي على وجه العموم، وتناول قضية (التقمص الزائف للثقافة) ليكون ذا وجاهة اجتماعية بهذا الخصوص عبر (شراء مجموعة شعريّة من شاعر متكسب) ونسبها إلى نفسه، وهو رجل الأعمال الفاسد بنظر أولاده والمجتمع!
ليس هذا وحسب، بل كان قد اشترى ناقداً ليطري على مجموعته، وشعريته وثقافته! قد تكون الكتابة بأسماء مستعارة يخفي طابع التوجس الأمني في ظل غياب الديمقراطيات الحقيقية في بعض البلدان، وهذا ما مارسه كبار كتاب العالم، وخاصة في بداياتهم، ولكنه لا يندرج حتماً ضمن ظاهرة بيع المنتج الأدبي فشتان بين الاثنين. أثار حفيظتي ذات مرة سؤال طرحه أحد الشعراء في مواقع التواصل الاجتماعي (كيف استفيد ماديا من موهبتي الشعريّة؟) فأجابه البعض مزحاً أو تهكماً (عبر بيع نصوصك لبعض صبيان ومراهقات الشهرة)، فمثل هؤلاء يدفعون الأموال مقابل اظهار صورتهم بأنهم من النخبة الثقافيّة. للأسف الشديد هذا العمل لا يقتصر على هذا الحد، بل أن هؤلاء وبخاصة البعض من النساء اللواتي أصبح لهن حضور في المحافل الثقافية على أنهن شاعرات أو أديبات، وما أن تعتلي المنصة حتى يتضح لأبسط حاضر في القاعة على أن هذا النص كتب لها وليس من عندياتها أبداً، ولا يمثل موهبتها أو ثقافتها بالمرة، أو يتوضح ذلك من خلال ضحالتها الفكريّة في تلك المحافل الثقافيّة، فما بين منتج النص وشخصيته علاقة تكامليّة واضحة تبان من خلال سلوكياته في هذا الوسط ، فمن غير المعقول أن تمتلك إحداهن نصوصاً شعريّة بجودة عالية جداً بينما تجهل أبسط قواعد الشعر أو سماته العامة، أو تغيب عنها بديهيات الثقافة الشعريّة. ويبدو هنا أنا أركز تماماً على بيع المنتج الشعريّ لأنه الأكثر رواجاً بين بقية المنتجات، يحيلني هذا الأمر إلى حادثة شهيرة وهي ان عملاً أدبيا قدم في محفل باسم معين، وصاحبه الحقيقي كان جالساً بتلك القاعة مدهوشاً ومصدوماً، وما أن أدرك أن ما يقدم هو عمله صرخ قائلاً: «هذا نصي، هذا نصي». ويقال إن الأمر آنذاك، قد وصل إلى تسوية مادية مقابل هذا النص. جانب آخر من جوانب بيع المنتج في (المسابقات الشعرية) فيشتري أحدهم هذا النص من أجل المشاركة في المسابقة المعينة، لأن اللجان ستتعامل مع (النص) وحسب، جودته هي من ستحقق الفوز لهذا النص بغض النظر عن (مؤلفه المزيف) المحجوب اسماً من النص، أو قد يستعير هذا السطحي نصا ما، للدخول في المسابقة وتقاسم الجائزة مع صاحبه الأصلي بحال فوز النص، وغيرها من الأساليب التي باتت تهيمن على المشهد. وأغلب المتداخلين مع هذا المعترك يدركون أن ما أقوله هو نصف الحقيقة، والنصف الثاني لا يصلح أن يقال في العلن! وهي ظاهرة تماهت مع موجات الانفلات التي تعم المنظومات القيمية في كل بلداننا العربية وفقا لمفاهيم العولمة وهوس البحث عن الشهرة السريعة ومحاولة كسب الاحترام عبر سلوكيات ومظاهر يراها البعض تتصل بقيمة الثقافة والاحترام المجتمعي. وهنا يقع الدور على المثقفين ذاتهم أولاً عبر مقاطعة كل من له صلة بعمليات البيع والشراء، وفرزه من المنظومة الثقافيّة، وعدم دعوته أو اشراكه بأية أنشطة ثقافيّة، كما وعلى المؤسسة الثقافية أن تعيد النظر دائما مع هكذا ظواهر، وخاصة أولئك الذين يسعون لنيل عضويات وهويات لمؤسسات ثقافيّة وهم أبعد ما يكونوا عن المفصل الثقافيّ!.