أسس فكريَّة لصناعة الإعلان

ثقافة 2024/01/29
...

  ياسين طه حافظ

أول مرة انتبهت إلى الوجه الآخر للإعلان، كنت طالب ثانوية. كان ذلك وأنا أقرأ مقالا للراحل الشيخ مصطفى صادق الرافعي في كتابه «وحي القلم». فاجأني منه قوله: إن الإعلان الكاذب يوجب منعاً وعقاباً. فاتت به تقول للناس: هذه سلعة جيدة وهي رديئة، هذا كذب وهذا غش. وتقول هذه نافعة وهي غير نافعة، بل ربما ضارة. وأنت بالإعلان الكاذب تغري الناس بما يجب الابتعاد عنه، فضلا عن أنك تسرق نقودهم وتورطهم بما هو غير جيد أو بما هو غير حقيقي. كان ذلك مجمل وفحوى رأي شيخنا الرافعي رحمه الله فقد علمنا بلاغة لم يعلمناها غيره. اليوم وبعد عقود تذكرت قوله وبدا لي مفاجئاً ومقبولا.

يقودني الحديث اليوم للكلام عن أخلاقية الإعلان أو ما يؤسس له اليوم من أفكار. ومدى مشروعيته، ثم- لقد توسعت الرؤية، إذ توسع المشهد فما عاد الإعلان سلعياً حسب، بل صار وسيلة كسب في النشاطات الاجتماعيّة وفي اختيار الشخصيات السياسيّة والقيادات الاجتماعيّة من المنظمة إلى رئاسة البرلمان، وفي الانتخابات البرلمانية نرى إعلانات و «صور» المرشحين على الجدران والحافلات وفي الساحات وعلى السطوح والجسور.

ولم يعد الإعلان كتابة، صار صوراً وأفلاماً وبرامج فضائيات. وصارت له مؤسسات متخصصة بصناعته ونشره أو توزيعه. أكثر من هذا صار له فن يخدمه ومخرجون يخرجونه، فهو عمل فني فيه المصور والكاتب والممثل والمخرج. إذاً هو اليوم حيوية اجتماعية لا يستغنى عنها. 

فماذا نقول عنه إذا ما قدم فحوى زائفة أو خادعة أو ضارة؟

وحين تنشر الإعلان صحيفة رسمية أو فضائية يكتسب تأكيداً رسمياً يدعو الناس للوثوق بسلامته وصدقه.

لم تعد المسألة بسيطة هينة. كبرت، تطورت واتسعت وزاد كثيراً عدد المسهمين بها وزاد واتسع حضورها، وهي بعض من حياتنا! جانب آخر، جانب تربوي، عرض إعلان قد يقدم لنا انموذجاً للسلوك، قد يتحكم بالذوق والقيافة واللياقات وقد يسهم في تأكيد على بعض مواد التغذية والطبخ، فهو ضمن المدى المدني والصحي. 

أيضاً لتأكيد المعتقدات المرغوب بها، ولهذه دور في توجه ثقافة البلد وسياسته.

قد تبدو هناك جوانب إيجابية صرفاً، لكن آثارها ليست سليمة كلّيةً كأن يكون مضمون الإعلان الفكري متخلفاً أو لا إنسانياً ويهبط بالمشاهد بدلاً من أن يسمو به. فهو هنا يؤسس لضرر اجتماعي أو يمهد لما هو مريب. 

ونحن لا نستطيع أن نحدد فضاءات وجود الإعلان وأين يمكن أن نراه. هو اليوم في كل مكان، لافتات وملصقات، ومشاهد تمثيلية في الفضائيات، وحتى في الأغاني والروايات وعلى أغلفة المجلات، بل وعلى أغلفة بعض الكتب والصفحات الأخيرة من بعضها..

يواجهنا اشكال قانوني آخر. فبعد تطور الإعلان المرئي على الشاشة صار الاهتمام بالجماليات، واسهمت الفنون كلها تقريباً، تصاعدت قدرات التصوير و»تأليف» مادته الإعلانية واخراجها، صرنا نواجه لقطات يزاح فيها منتج غذائي أو صحي باستياء من كراهته، ولتزكية وتقديم البديل! لاشك أن ازاحة الأنواع الأخرى توحي بهذه الماركة أو تلك، باسم وصورة هذا 

أو ذاك. 

وهي إساءة وإن أغفلت الاسم وتمام صورة المنتج المزاح، واضحة، وحال التجاوز على والاعتداء عليه واردة. مع كل هذه المآخذ صارت لنا في الإعلانات وسائل امتاع وبعض من المشاهدين في بلدان معوزة، وقد كنا كذلك، يجدون مسرات في نماذج الجمال النسوي والأزياء والأطعمة و»اللقطات» المختارة بعناية لاثارة الاعجاب بها، ومنها إلى السلعة المعلن عنها، سيارة أو صالة فندق فخم أو حلي أو زجاجات نبيذ.. مشاهدون في البلدان الفقيرة يجدون فضائيات الإعلان هي المفضلة فهي تذكّرهم بوجود عالم أرقى هم دونه وأغنى وهم بعيدون عنه وفي بؤس. هذا لا يخلو من متعة، ولكنه لا يخلو من ايذاء نفسي أو تكون له نتائج سلوكيّة لا نريد توافرها. 

لابد من أسس فكريه يقوم عليها الإعلان لنتمكن من إدارته والسيطرة عليه وتوجيهه، لا ردعاً عن الاساءة حسب ولكن لتطويره وإغنائه بما هو أكثر نفعاً . 

ظاهرة بهذا الاتساع والحيوية والتنوع في الوسائل والفنون و «المواهب»، تستوجب تفهماً وتنظيراً فكرياً ولا تبقى ظاهرة طائشة.

نحتاج الآن إلى وقفة أمام ما تشهده من شراء الثقافات أو شراء الفن أو شراء المثقفين والأطباء والفنانين- مصورين وممثلين ومخرجين، فنانين وأصحاب مهارات ليشيروا أو ليخلقوا جواً حوارياً أو خطاباً أو تمثيلاً، لابراز قيمة وأهمية أو أفضلية المروَّج له. وهذه مثلما هي مسألة اخلاقية، هي مسألة حَرْف القيم الثقافيّة والحضاريّة عن مسارها ودورها الأساس.

ويزداد الاعتراض إذا كان هذا الإعلان عما هو سيء أو غير صحيح أو ضار... أما القول بإن الإنسان دائماً بحاجة إلى عون أو نصح، فهو كلام سليم، لكنه أخلاقي مثالي يقابله تماماً أن صاحب الانتاج أو المُعلِن يحتاج إلى من لا يملك الخيار لكي ببيعه بضاعته السيئة باعتبارها المفضلة والأحسن. 

مثلما القوانين تحمي من الاعتداء والسرقة والاحتيال، القوانين أيضاً مطلوبة، لحماية الناس مما يخدعهم أو يكذب عليهم. وفي حال شائكة مثل هذه، نعود للتأكيد على ضرورة أسس فكريّة للظاهرة لتعقِبها قواعد مرعية.