النَّحت يروي سرديات تدمير الإنسان

ثقافة 2024/01/30
...

  سامر جمال حسن

على بعد (شمرة عصا ونصف) من (فلتافا)* نهر مدينة براغ وشريانها الأبهر، ها هنا شيّد النحات التشيكي (اولبرام زوبيك   1926  - 2017) وطناً من نوع آخر، منتهكاً من قبل دكتاتوريات الإيديولوجيات والأحزاب الشموليّة الفاشلة، والأنظمة المستبدة التي انهارت بلمح البصر، بعد أن ارتكبت المصائر الفاجعة لمواطنيها، العمل النحتي لزوبيك يروي سرديات تدمير الإنسان وهتك عقله، وانتزاع رشده بالتعذيب المبرمج الممنهج وسلبه حريته، في ابتكار آليات تضعه على سكة التآكل التدريجي، الذي يبدأ من قلبه حتى آخر جزء وخلية بجسمه.
حين يواجه المتلقي رائعة زوبيك، يتساءل مع نفسه: أية فكرة جنونية يتحدث عنها هذا الفنان؟
أية عبقرية يحملها؟
أي نوع من المقدرة والمهارة التي يمتلكها هذا الإنسان؟
لكي يختزل لنا كل الأزمنة والأمكنة ويغنينا عن كل التراجم والقواميس والتفاسير لفهم سلوكه الفنيّ ومخرجاته، ويقدّم للمشاهد هذا العمل الذي ضمن به أسر الافئدة التواقة لرؤية كل ما هو جميل من
حولها.
أعتقد، أن أعمالاً فنية كهذه تختصر لنا زمناً من الحكايات، وهو يرثي (مجداً) مضاعاً وتاريخاً مزدحماً بالأكاذيب والأوهام، وهو يحسّ بعمق اللوعة التي يعانيها الإنسان حينما يفقد وطناً.
لقد ظلت هذه الأعمال الفنية المنثورة على امتداد النهر تحمل تاريخاً لمولدها، ثابتة تتواصل مع الزمن، تستيقظ مع ألوان الفجر وحركة الماء والشجر.
إنه المصير المحزن الذي عبّر عنه الفنان بذكاء وعناية في منحوتاته التي ننظر إليها ونتأملها بعين المتذوق والمحاور لا الناقد، والمتسائل: كيف استطاع زوبيك إذاً أن يخلق كل هذا الجمال؟
حين بدأ يتصدى بشكل مجازي مرمّز في إثارة الذات والمشاعر؟ تكوينات من سبع قطع برونزيّة متتالية على سلّم، مرصوفة على وفق إيقاع يكشف عن شاعريّة مهندسهِ، تحفّ بها الأشجار وقناديل الزهور، تخفف من حدّة العمل وقسوته: مثيرة، مقلقة، ذات منظور قاهر يشكل في النهاية نظيراً تشكيلياً لعصر مخترق ومطعون في أخلاقيته.
ما دام اعجاب المتلقي قد بلغ حد حبس الأنفاس وسبات الألسن، فحسبنا في قول الشاعر نزار قباني: "الصمت في حرم الجمال جمال".
  لكن لنتساءل مرة أخرى ما ذنب بقية الفنانين الآخرين اللاهثين لصناعة جمال الإنسانية؟
هل أبقى اولبرام زوبيك فرصة لأولئك كي ينافسوه بها؟ أ
م كان يبحث عن لغة تتآلف مع الأشياء المنظورة، ليرينا ظلالها أو رموزها، أم أنه كان يصطنع تلك الأعمال ليثير لواعجنا؟
بالتأكيد أن حدود الفن لا تسيجها محددات، وهناك الكثير من الأعمال لفنانين كبار مهمتهم الأساسية تعمير وامتاع قلوبنا وبصائرنا الطامسة بالوحل والتشوه البصري اليومي .

* فلتافا: النهر الأطول في الجمهورية التشيكية، عليه تطلّ مقهى ( سلافيا)، اتخّذ منها الشاعر محمد مهدي الجواهري ركناً قصياً  ليكتب قصائده الخالدة (يا دجلة  الخير، حوار مع براغ، أيها القلق)، وعن سحر المدينة وجمالها يقول الجواهري :
         أعلى الحسن ازدهاء وقعت
                        أم عليها الحسن زهواً وقعا
          وسل الجمال هل في وسعه
                         فوق ما أبدعه أن يبدعا؟