«صفصاف».. الوقوف على رصيف الوهم

ثقافة 2024/01/31
...

  رضا المحمداوي

 

شهد المسرح العراقيّ في الآونة الأخيرة عروضاً فنيّة انشغلت بفكرة(الانتظار) كثيمة لموضوعاتها وأحداثها وشخصياتها، ومع توالي هذه العروض وتكريس هذه الفكرة فيها على نحو لافت، يصحُّ إطلاق تسمية (مسرح الانتظار) على هذه العروض، فقد سبق للفنان أنس عبد الصمد مخرجاً ومؤلفاً أنْ قدَّمَ مسرحية

وكانت صورة الكاتب المسرحيّ (صاموئيل بيكيت- ( yes godo التي احتلتْ مساحة كبيرة من المسرح تكفي للدلالة على فكرة الانتظار غير المجدي التي انشغلتْ بها مسرحية (في انتظار غودو) الشهيرة، في حين قدَّمتْ الفنانة عواطف نعيم مسرحيّة (غودوت.. أين أنت؟) باقتباس من المسرحيّة السابقة نفسها حيث طرحتْ فكرة الانتظار من خلال مجموعة من النساء، وجاء الكاتب المسرحي مثال غازي بمسرحيّة (في انتظار فلاديمير) كتنويع أو إعادة انتاج لمسرحيّة (بيكيت) المعروفة، وقدَّم المخرج علي حبيب عرضه الفني الموسوم بـ (ترنيمة الانتظار) مستخدماً أسلوب الكيروغراف كأداة في ترجمة رسالة الانتظار. 

وسبق للكاتب والمخرج علي عبد النبي الزيدي أنْ قدَّمَ مسرحيته (ميت مات)عن ذات الفكرة، قبل أنْ يقدّم مسرحيته الأخيرة (صفصاف) في الموسم المسرحي الماضي، ويعيد عرضها ضمن عروض مهرجان المسرح العربي يوم 16/1 / 2024 ، وتم تجسيد فكرة الانتظار فيها من خلال شخصياته الخمس التي أدمنت الوقوف على رصيف الوهم والانتظار أمام إشارة المرور الضوئية حيث بقي ضوءها الأخضر ثابتاً لتمرَّ الحياة والسيارات مسرعة في حين يعانون من الإيقاع البطيء لحياتهم التي قضوها منتظرين أربعين عاماً اشتعال الضوء الأحمر لتتوقف حركة السيارات كي يعبروا الشارع إلى الجهة المقابلة حيث البناية البيضاء التي يروم الجميع الوصول إليها؟ 

ينشغل رصيف الانتظار أوّلاً بشخصيتين هما (أسعيّد- الممثل محسن خزعل) مع التأكيد على تصغير الأسم تحبّباً كما هو شائع في اللهجة الجنوبية، الذي ينتظر عبور الشارع للوصول إلى البناية البيضاء التي هي من وجهة نظره المشفى الذي ترقد فيه زوجته (جميلة)، ومعه(أوحيّد- الممثل محمد خريش) بذات التصغير المحبب للاسم، الذي ينتظر، هو الآخر، عبور الشارع للوصول إلى ذات البناية التي يراها على أنها بيت خطيبته (حياة).

وينضم إليهما (أعنيّد- الممثل عمار نعيم) بدراجته الهوائية وينتظر تغيير إشارة المرور ليعبر إلى البناية البيضاء والتي تمثّل له بيت الله وعليه الوصول إليها لأداء فريضة الحج، ويأتي الجندي (أحميّد- الممثل عماد الزيدي) خريج قسم الفلسفة ليقف معهم منتظراً العبور إلى دائرة التجنيد التي هي ذاتها البناية البيضاء لأجل الالتحاق بوحدته العسكرية، وآخر المنتظرين (صبرية -الممثل أحمد شنيار) التي تأتي متأخرة وتنتظر الوصول إلى البناية البيضاء ذاتها والتي هي بالنسبة لها دائرة البريد التي اعتادتْ استلام رسائل الحب من حبيبها الغائب.

إنَّ حالات الانتظار المتعددة والمتنوعة التي طرحتها المسرحيّة من خلال شخوصها بدتْ لنا وكأنها حالة انتظار واحدة طويلة تمتد لأربعين عاماً، وقد انتهتْ إلى طريق مسدود لا يؤدي إلى أيّ منفذ أو حلّ أمام هذه الشخصيات المنتظرة، لكن المؤلف-المخرج يقلب طاولة الانتظار رأساً على عقب عن طريق (الاِنقلاب الدرامي) الذي يطرحهُ في الجزء الأخير من المسرحيّة، حيث يكشف عن الوهم الكبير والعيش على الأمل الكاذب والحلم الرومانسي الغائب، وهو ما يجعل الصبر جميلاً في نفوس هؤلاء المنتظرين الواهمين ليعيشوا في تلك المنطقة الوهمية ويفضلونها على المكاشفة أو مواجهة الحقيقة الصعبة والواقع المرير الذي يدركه الجميع، لكن لا بديل أمامهم للتخلص من الزمن الثقيل الذي يرزحون تحت وطأته سوى المضي مع هذا الوهم الجميل. فـ (أعنيّد) قد أصيب بالعمى منذ ولادته لكنه يحلم بأنْ يرى بيت الله، و(أسعيّد) توفيتْ زوجته قبل أربعين عاماً، و (أوحيّد) تركتْهُ حبيبتهُ لتتزوج من رجل آخر وهي الآن امرأة عجوز، أما (صبرية) فهي امرأة مهجورة وواهمة تكتب الرسائل لنفسها، و (أحميّد) جندي قُتِلَ في الحرب منذ سنوات لكنَّهُ ما زال يحلم بالحياة.. تلك الحياة التي غادرها الجميع أو غادرتهم، إلا انَّهم ما زالوا يحلمون أو يتطلعون إلى ذلك المكان الأبيض النقي الصافي الذي لم يلوثْهُ الموت أو الغياب أو الفقدان، فيما تشير الإشارة الخضراء الثابتة والمفتوحة لحركة السيارات من أجل اللحاق بالحياة وايقاعها المتسارع، إلى أنَّ الزمن الفيزياوي قد توقف عند هذه الشخوص، وكذلك تجمّدَ  زمنها السيكولوجي عند حالة واحدة وأنَّها الآن تعيش خارج الزمن، وأنَّ انتظارها المزمن العقيم مثل أشجار الصفصاف لا يثمر أبداً مَهْما أمتدَّ بها العمر طويلاً، وأحسبُ أنَّ عنوان المسرحيّة جاء من هذا المعنى.

يمكن الإشارة أوّلاً إلى أنَّ المخرج علي عبد النبي الزيدي في إخراجه لـ (صفصاف) قد وقع في النظرة الأحاديّة للنص الذي كتبهُ، بمعنى الانحياز إلى البنية النصيّة للمسرحيّة ومحاولة الحفاظ عليها من دون أنْ يقدَّم قراءة مُضافة أخرى أو معالجة إخراجية مغايرة تعمل على تحريك أو تفجير البؤر والمكامن الخفية للنص، فالواقعيّة التعبيريّة التي صاغ المؤلف نصه المسرحيّ داخل إطارها كانت بحاجة إلى معالجة إخراجية أكثر انفعالاً واشتباكاً مما ظهرتْ لنا في (نص) العرض المسرح، ومنها على سبيل المثال طريقة استخدام إشارة المرور الضوئية أو استثمار دلالتها ورمزيتها الدرامية والانتقال بها من الدلالة العامة الشائعة في الشارع إلى المفردة المتحركة ضمن أدوات

المخرج.

حدَّ الخط المستقيم الذي رسمَهُ المخرج في مقدمة وسط المسرح وجسَّد فيه رصيف الشارع، من حركة الممثلين والتي انحصرتْ في ذلك الحيز الضيق والمُحدّد وسط الفضاء المسرحيّ الواسع. 

واستخدم المخرج التغريب البريشتي من أجل كسر الإيهام الدرامي، وذلك من خلال استخدام اللهجة الشعبيّة الدارجة داخل نصه المكتوب باللغة الفصحى، والإفادة من هذا الجانب في إثارة نوع من الفكاهة السوداء أو السخريّة المُرَّة في حوارات الشخصيات، لكن المخرج لمْ يكنْ موفقاً في إسناد الممثل (احمد شنيار) لتأدية دور شخصية المرأة المهجورة (صبرية) حيث أوقعهُ هذا الاستخدام الفني في اشكالية عدم القبول أو الاقناع للحصول على الأداء الفني المطلوب، وبالتأكيد أنَّ الاستعانة بإحدى الممثلات لتأدية شخصيّة (صبرية) ستكون أكثر وقعاً واقناعاً من الطريقة الملتبسة التي قدَّمَ بها المخرج تلك الشخصيّة المهمة، فضلاً عن حضور تلك الممثلة سيكون فرصة مناسبة لكسر الطابع الرجالي للمسرحيّة.

وكان يمكن للأغاني الشعبية التي تم إيرادها واستخدامها أنْ تكون أكثر حضوراً وفعالية لتغادر السطح الخارجي الذي جاءتْ به لتغوص في بنية العرض المسرحيّ، وبنفس السياق كان يمكن لهذه الأغاني وموسيقاها الراسخة في الذائقة الشعبية أنْ تكون هي الموسيقى المسرحيّة المرافقة للتأكيد على الطابع العراقي والهوية المحلية بدلاً من تلك الموسيقى العالمية بطابعها الكنسي.

ولا بُدَّ من الإشادة بالأداء الفني للممثلين الخمسة الذين أفصحوا عن قدرات فنيّة تستحق الإعجاب والتقدير، إذ استطاعوا أنْ يقدّموا العرض المسرحيّ الطويل نسبياً بذلك الإيقاع الفني دون أنْ يختلَّ الأداء لديهم.