الشعر والرياضيات يصنعان رواية عن الحرب

ثقافة 2024/01/31
...

 كامل عويد العامري

رواية الهروب، رواية ماتياس إينار الجديدة، تتناوب بين قصة جندي في قطيعة مع حرب معاصرة وقصة عالم رياضيات ألماني، منذ صعود النازية حتى انهيار الدول الشيوعية. لقد وضعت الحروب هاتين القصتين في حوار، وكأن أوروبا لم تنته بعد من دفع ثمن إمبرياليتها وأيديولوجياتها. هذه الرواية تطرح أسئلة أكثر مما تقدم إجابات، لكنها رواية تنم عن فخامة وشاعريَّة تقريبا. ربما لأنه، عندما لا يكون العقل كافيا، فإن الأدب والشعر الوسيلة المتبقية لفهم ما يحدث لنا.. ماتياس اينار: الهروب، 256 ص.

في قلب متاهة البحر الأبيض المتوسط يظهر رجل متسخ متعب. جندي مجهول الهوية هارب من حرب غير محددة، ويبدو أنه فر من عنفه في مكان خارج نطاق المعارك. يجبره لقاء على إعادة حساب مساره ومفهومه لقيمة الحياة.

حول برلين، على متن سفينة سياحيّة صغيرة، في 11 سبتمبر 2001، ينعقد مؤتمر لتكريم بول هيوديبر، عالم الرياضيات العبقري من ألمانيا الشرقيّة، الناجي من معسكر الاعتقال بوخنفالد، بوصفه مناهضا للفاشيّة والذي ظل مخلصًا لجانبه من جدار برلين، على الرغم من انهيار اليوتوبيا الشيوعيّة.

من التوتر بين هاتين القصتين يتكشف، كما لو كان نوعا من السحر– شعريا، ومكانيا، ورياضيا – كل ما يحدث، في الحب كما في السياسة، بين الالتزام والخيانة، بين الوفاء والوضوح، بين الأمل والبقاء.

ينشر ماتياس إينارد هنا اقتصاديّة الصمت والاهتزاز الذي ينتج كثافة روائيّة تتناسب عكسيا مع إنفاقها من الكلمات. وبما أن الحرب هي تاريخ مستمر، اليوم كما كانت في الماضي، فإن الهارب يزودنا بالصور والتخمينات لفك رموز المعادلات العشوائيّة.

بين البحر والجبال، في أحد بلدان البحر الأبيض المتوسط، يختبئ رجل. إنه متعب، وجائع، يشكو العطش، يرتجف بردا في الليل، ويشعر بالحرارة نهارا. تفوح منه روائح نتنة، “عرق متعفن [...] وقذارة، ووحل، ودم جاف” ورائحة قرف ،لا يمكن تفسيرها”. هارب من حرب في الخطوط الخلفية، يسعى للوصول إلى الحدود في الشمال. لكنه قبل كل شيء، يتوقف عند كوخ منعزل تابع لعائلته، حيث كان يمارس الزراعة والصيد، وصيد الأسماك مع والده، وهو الرجل الذي كان يصطاد سمك السلمون المرقط “بالقوة نفسها، وبذات السرعة التي كانت بها حركاته عندما تصطدم بك لكمة ترميك إلى الأرض مع نصف وجهك المحترق”. هذا الجندي رجل بسيط، فظ، متوحش: “قبل الحرب، كان رجلاً فقيرًا في عائلة فقيرة، منذ اليوم الأول للحرب كان يحمل سلاحًا، ومنذ اليوم الأول، بدون زي عسكري كان يحمل “ سلاحا، ومنذ الفجر الأول كان في قتال مع آخرين حتى الموت.

 “أنت لا تزال واحدًا منهم، لا تزال تحمل أسلحة وذخائر وتذكارات حربية، يمكنك إخفاء البندقية والخراطيش في الزاوية وتصبح متسولًا، أترك السكين أيضًا، المتسولون لا يملكون الخناجر.

الأحذية تفوح منها رائحة القرف فامش حافي القدمين، ويمضي عاري الصدر بسترة ذات مظهر بائس”

تذكّر هذه الأغنية الجميلة والمدمرة، بأغنية بوريس فيان، الهارب، والتي حُظر بثها أيضًا مدة طويلة على موجات الأثير. هناك أيضًا نسختان مختلفتان من البيت الأخير، مما يؤدي إلى تعديل خطير لمعنى خطاب الختام، التحدي الذي يواجه في هذه الأيام القليلة في الجبال هو محاولة استعادة إنسانيته، وهو ما بدأ القيام به في الهروب. كان الطريق شاقا، تتخلله لقاءات مع حمار، وامرأة، وجنود آخرين، ويمتد في جسد الهارب وفي عقله على حد سواء. هذه القصة الأولى جسديّة للغاية، تحملها الأحاسيس، وخاصة الروائح، التي تعيد الجندي إلى الطفولة، إلى زمن ما قبل الحرب، إلى حساسيته تجاه العالم الذي يفصله عن الفظائع التي ترتكب في إطار عصبة. الكتابة مفككة وجسديّة في الوقت نفسه، كثيفة ومنهارة، تقريباً، وكأنها شعر حر بلا قيود إلى حد ما، كما لو كان النص نفسه، لكي يعبر عن تفكك وفوضى الحرب، يفقد من بنائه. 

نحن نشهد عملية إعادة بناء الإنسان البطيئة، بينما كان يحمل حمولة ثقيلة على منحدر شديد الانحدار، مع احتمالية الرجوع إلى الوراء دائمًا. فضلا عن ذلك، فإن رحلة الجندي، مثل المرأة التي ينتهي به المطاف بصحبتها. لم يسم هذه الحرب أو يحددها في بلد معين. إنها الحرب على وجه العموم، من الحروب التي يشرب فيها المدنيون الكؤوس، ويستشهد فيها الجيران. من الواضح إنها حرب لا نعرفها ولا مكان لها، ولكن كل الحروب متشابهة، أليس كذلك؟ وعندما تكون فارًا، فإنك تظل جنديًا بردود أفعالك وبتلك الذكريات التي تلتصق بجلدك. 

تتخلل قصة الهارب قصة أخرى قد تبدو نقيضها: قصة أكثر تعقيدًا، قصة مؤتمر تكريما لبول هيوديبر، عالم الرياضيات العبقري الذي ظل مخلصا لجمهورية ألمانيا الديمقراطية حتى النهاية، والذي غرق بعد سنوات قليلة من نهايتها. في البحر الأبيض المتوسط تحديداً. على عكس الأولى، فإن القصة الثانية هذه مليئة بالإشارات المكانيّة والزمانيّة التي تضعها في قلب الحضارة الحضرية الأوروبية، من برلين إلى فايمار، عبر لييج. لقد انعقد المؤتمر على متن قارب يبحر حول وانسي Wannsee في سبتمبر/ أيلول عام 2001. وفي المدينة التي كانت ترمز للحرب الباردة، في موقع المؤتمر الذي صادق على الحل النهائي في عام 1942، وفي يوم الهجمات على مركز التجارة العالميّ، فكان هذا التاريخ هو الذي يستحضره ماتياس إينار. فضمن تشابك الأحداث والعلاقات الرومانسية والسياسية والمهنية، التي ترويها الأصوات المتعددة لزملاء بول وشريكته مايا وابنته إيرينا، يهيمن غموض، بحثًا عن حقيقة عابرة. 

إن العديد من الشخصيات تدور حول بول هيودبر، عالم الرياضيات العبقري ومؤلف كتاب “تخمينات بوخنفالد” - معسكر اعتقال نازي - وهو عمل رياضي وأدبي في ذات الوقت كتبه أثناء اعتقاله في بوخنفالد.  

ومن خلال شهادات الأصدقاء والزملاء الذين أعجبوا بعمله، والرسائل الموجهة إلى شريكته وقصة ابنته الوحيدة، إيرينا، وهي تعيد بناء حياة بول. إيرينا التي لا تعرف الكثير عن والديها وتكتشف، بعد مدة طويلة من اختفائه، كيف كانت العلاقة الغريبة مع والدتها مايا التي كان يحبها بجنون - الرسائل تثبت ذلك - لكنه اختار العيش بعيدًا عنها. ‘. الجدار يفصل بينهما. بينما تعيش مايا في الغرب، بقي بول، الشيوعي المقتنع والمناهض للفاشيّة، في برلين الشرقيّة، وتتذكر إيرينا الرواح والمجيء بين الألمانيتين خلال عصر الستار الحديدي. إنه ليس وطنه الذي يفر منه، ومع ذلك، وهو متشبث بعناده بعدم مواجهة الواقع، يفرّ من الواقع لينغمس في الرياضيات. ولكن هل يمكن لعدد لا نهائي من الأعداد الأوليّة الزوجيّة أن يحمي الحياة وخيبة الأمل؟

يكتب لزوجته: “الرياضيات هي حجاب موضوع على العالم، يتتبع أشكاله، ليغلفه بالكامل.” قالت عنه ابنته: “كان والدي يمشي على قدمين: الجبر والشيوعية. وقد أتاح له هذان العنصران بالسفر طوال حياته. وقد سمح له هذان العالمان بالنجاة من النفي”.

إيرينا، التي ستهرب أيضًا من حياتها بأكملها للعيش والعمل في الخارج، تنظر إلى ماضي والديها. وبينما يلجأ والدها إلى أبحاثه، تتابع والدتها مسيرتها المهنيّة فأصبحت شخصيّة في الحزب الاشتراكي الديمقراطي. وهكذا شيئًا فشيئًا، مثل اللغز، تبنى قصة الزوجين اللذين شهدا اضطرابات تاريخ القرن العشرين.

إن مفتاح الرواية يقدمه لنا الأمريكي ليندن باولي، وهو أحد علماء الرياضيات الحاضرين في هذا المؤتمر الذي انعقد عام 2001، وقت انهيار البرجين التوأمين في نيويورك. ففي رسالة اعتراف طويلة موجهة إلى إيرينا، يشرح تفاصيل علاقته بمايا ويختتم: “أحيانًا يكون لدي انطباع بأن كل هذا مرتبط، بشكل غامض، بأننا جميعًا مرتبطون ببعضنا البعض مثل سلسلة من الأرقام، من دون أن نفهم كيف.”

على الرغم من حبهما العاطفي، عاش بول في الشرق ومايا في الغرب، وكانت ابنتهما تتنقل بينهما. كان بول هيوديبر، الشيوعي المتحمس، ينتقد أيضًا حكومة جمهورية ألمانيا الديمقراطية. وكان لدى مايا، المتورطة مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي العديد من الشؤون.

إن ذكريات كل شخص، وشبه الاعترافات، والقصة التي أعادت إيرينا صياغتها، ترفع حجبًا معينة من دون أن تنير كل الظلال، مما يؤدي تدريجيًا إلى تفاقم الارباك الذي يتوافق مع معاناة الهارب. وهكذا يبقى بوخنفالد هو المكان الذي زار فيه غوته شيلر وهو يكتب ماري ستيوارت، وكذلك كان مكانا لمعسكر اعتقال. تختتم إيرينا قائلة: “كان كل شيء متجمدًا ومحشوًا بالأكاذيب”. على الرغم من أن المؤلف لعمل فريد من نوعه يجمع بين الرياضيات والشعر، والذي سمح له بتحمل اعتقاله، إلا أن بول لن يتمكن أبدًا من الهروب من هذه الكذبة.

يقول بول، وهو تلميذ خيالي لعالمة الرياضيات العظيمة إيمي نويثر: “لقد علمتني أن الرياضيات هي الاسم الآخر للأمل”. والنص الشعريّ الذي يعرض فيه البطل التخمينات التي صاغها في بوخنفالد هو “عبور، في أعماق القرن العشرين، بين اليأس التاريخي والأمل الرياضي”. وبالنسبة لشخصية أخرى، “كانت الرياضيات إحساسًا... وبالتالي وسيلة لإدراك الطبيعة”. وفضلا عن ذلك، وكما في روايتي “المسافر” و”ستيلا ماريس” لكورماك مكارثي، تبدو الرياضيات فوق الأدب، وتتفوق عليه، بينما ترتبط به. “هذا الفرع المحدد من الرياضيات الذي هو الأدب، وبشكل أكثر دقة الشعر الذي هو جبر الأدب” يسمح لألما سيجديتش، وهي امرأة بوسنية شابة، “بالنظر إلى الصدمة في وجهها».

لكن لا يبدو أن الرياضيات والأدب كان لهما الوزن الكبير مثل خيبات الأمل التاريخية التي تعرض لها بول. فالرواية يتقاطع نصفها مع شخصيات مأساوية، مثل مريم ميرزاخاني، أول امرأة تحصل على وسام فيلدز، وجائزة نوبل في الرياضيات، عام 2014 والتي توفيت بعد ثلاث سنوات. أو ناصر الدين الطوسي، الفيلسوف وعالم الرياضيات والفلكي، الذي أُجبر على التوصل إلى تسوية سياسية، وهو الذي شهد نهب بغداد، في عام 1258، حيث أُعدم “جميع” السكان بحد السيف. يعود إلينا ماتياس إينار برواية يتقاطع فيها مصيران عالقان في جنون الحرب، هارب يسعى للفرار من القتال وناج من معسكر بوخنفالد. مازجا بين الشعر، والرياضيات، والرعب، والأمل.