سلطة المُرسل في الخطاب الكرافيتي

ثقافة 2024/01/31
...

عبد علي حسن




  تُعدّ جدران الكهوف والمغارات بما تتضمنه من إشارات ورسومات الخطاب الكرافيتي الأول، كممارسة اعتنى بتكوينها وإظهارها الإنسان الأول، فقد كانت تعبّر عن المكنونات الداخلية وموقفه إزاء ما يحصل حوله، كما أنها كانت تكشف عن حجم العلاقة التواجدية بينه وبين الكائنات الأخرى التي تشاركه الوجود والحياة، لذلك فقد حملت تلك الإشارات والرموز والرسومات رغبته في إخضاع تلك الموجودات وممارسة سلطة المنتصر عليها، خاصة تلك الكائنات التي لم يتمكن من السيطرة عليها في أرض الواقع، وكذلك الكائنات التي تمكن من السيطرة عليها، إذ تشكّل تلك المرموزات طقساً احتفالياً بهيمنته وسلطته بصرف النظر عن موقف تلك الموجودات .
 وبمرور الزمن وتحول حياة الإنسان واكتسابه هويات جديدة تأثرت بزمكانية تفاعله مع الحياة وصيروراتها، فقد تطورت وسائل التعبير عن جوهر الإنسان الداخلي، عبر اتخاذه أمكنة وفضاءات جديدة استوعبت خطابه الداخلي .

ولعل الدخول إلى منطقة هذه الظاهرة وتفكيك مكونات الخطاب الكرافيتي، والتركيز على المرسل وحيازته لسلطته في بثّ رسالته الاجتماعية / السياسية/ الوجدانية /الاقتصادية، وسواها من الرسائل المعبرة عن مكنونات الذات الثاوية في داخله، وامتلاكه الجرأة في طرح تلك المكنونات، كرسالة لا يراد منها سوى الكشف والمعرفة بما يدور في الذات الداخلية للمرسل . أرى أن كل ذلك يستلزم منا تقديم تعريف لماهية هذا الخطاب، ليكون نقطة البداية في توصلاتنا لمحاولة المرسل في بسط سلطته عبر رسالته التي تتخذ من مكونات البيئة ووسائط التواصل مكانا لها .

  فالكتابة على الجدران أو الكرافيتي بالإنجليزية Graffiti هي ( تلك الرسومات أو الأحرف على الجدران أو الأشياء بطريقة غير مرغوب فيها، أو من دون إذن صاحب المكان، وغالباً ما يستعمل هذا الفن بالبخاخات، وترجع أصولها للحضارات القديمة المصرية والإغريقية والرومانية )، ومن معطيات التعريف الٱنف الذكر، هو أن مرسل / رسام وكاتب تلك الحروف غير مبالٍ بموافقة صاحب المكان الذي يحمل تلك الرسائل، فضلاً عما تسبّبه تلك الرسومات والكلمات من خروج على السلوكيات والمفاهيم الأخلاقية العرفية في المجتمع، ومن هنا تتبدّى لنا سلطة المرسل لتلك الخطابات التي لا تولي اهتماماً إلّا لما يريد المرسل من بث لواعج ودواخل ذاته من دون أن يشير إلى مصدرية تلك الرسائل، وهذا يعني مجهولية المرسل وممارسته لسلطته، إذ إن اختيار الأمكنة العامة التي يتواجد فيها الأفراد بشكل مكثف وكبير، يجعل الاطلاع على تلك الرسائل ممكناً ويسيرا لأكبر عددٍ من المتلقين لتلك النصوص البصرية والمكتوبة، كما أن هذه الرسائل ليست مرسلةً لفئة دون أخرى، فما يعني المرسل هو بثّها من دون أن ينتظر رأي أحد بها، ولعل في ذلك إشارة لممارسة سلطته على المتلقين، وإذا ماعلمنا أن السلطة هي القوة التي يمارسها ويستخدمها شخص أو مجموعة أشخاص على الآخرين، فإن تلك الرسائل التي يتضمنها الخطاب الكرافيتي يتم بثّها وإبلاغها قسراً من دون حصول مواضعة اجتماعية على قبولها أو عدم قبولها، مما يعني اعتماد هذا الخطاب على طرف واحد هو المرسل، الذي يجد الحرية في توصيل رسائله المعبّرة عن مكنوناته الداخلية وحسب، من دون الإعلان عن مصدرية مرسلها، إلّا أن الخطابات السياسية التي تبثها جهة معينة ومحددة، غالباً ما تشير إلى مصدرية تلك الرسائل، لإلفات النظر إليها وما تتضمنه من توجهات أيديولوجية أو سياسية معارضة .

 ومن بين الأمكنة والفضاءات التي تستخدم كوسيط اتصالي لتبليغ رسائل المرسل أو كاتب ورسام تلك الخطابات، هو الكتابة على المركبات كالسيارات أو (الستوتات) أو الدراجات النارية، وهنا تجدر الإشارة إلى استخدام وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة في نشر تلك الكتابات على صفحات الفيسبوك، فقد وجدنا صفحة خاصة بها تحمل ذات العنوان والاسم وهو (الكتابة على السيارات)، وتحمل جميع المواصفات التي أشرنا إليها، الخاصة بماهية الخطاب الكرافيتي، وسنعمد إلى تحليل بعض تلك النصوص المدونة على سطوح المركبات كزجاج السيارات والدراجات النارية، للتوصل إلى الدوافع الاجتماعية والعاطفية التي دفعت بكاتبها الذي غالباً ما يكون مجهولاً ولا يعلن عن اسمه،  إلى استخدام سطوح المركبات كوسيط لبث رسائله إلى المتلقي العام الذي يتصف بالاختلاف ثقافياً واجتماعيا واقتصادياً، وبالتأكيد سيختلف مستوى التلقي وتأويل ما تفضي إليه تلك النصوص من شخص إلى ٱخر تبعاً لذلك الاختلاف، إلّا أن أي مستوىٰ لذلك التلقي والتأويل لا يؤثر فيٰ موجهات كاتب تلك النصوص الذي ينتهي دوره في عملية الإرسال عند الانتهاء من كتابة ما يجول بخاطره، بمعنىٰ آخر، فإنه يمارس سلطة على المتلقي بدفعه لقبول رسالته .

  لقد تضمنت تلك النصوص نصوصاً موازية متخفية شكّلت أنساقاً مضمرة، كشفت القراءة منها أنساقاً وجدانية/ عاطفية وأخرى اجتماعية، فقد تمتع الخطاب الوجداني بهيمنة على أغلب النصوص، وتظهر بنية الفراق والمعاناة من بُعد الحبيب كبنية مركزية نظراً لتركيبة المجتمع العراقي والعرف اللذين يكرّسان الفاصل بين المرأة والرجل، وانعدام فرص اللقاء المباشر والمشروع بينهما، وبالتالي يبدو الشوق والعذاب بسبب صعوبة وصال الحبيب كمعاناة وجدانية شائعة، فنقرأ علىٰ سبيل المثال النصوص الآتية التي غلبت فيها اللهجة العراقية كوسيط لغوي اتصالي، ليكون خطاباً مرسلاً إلى عامة المتلقين باختلاف مستوياتهم الثقافية والتعليمية :

  --1 ( مو مثل گلبي گلب أمك عليك).. نص على سطح سيارة أجرة .

 -- 2 ( ليش 90 بعذابي).. نص على الزجاج الخلفي لسيارة أجرة .

 -- 3 (الدايم الله والمشو يتعوضون).. نص على السطح الخلفي  لسيارة أجرة . 

  فالنصوص السالفة تخفي أنساقاً وجدانية وعاطفية مضمرة، ففي النص الأول نتلمس حرص وخوف الحبيب على محبوبه أكثر من حرص وخوف الأم عليه، مفردة (گلبي عليك) تخفي نسقاً وجدانياً يتمثّل بالهاجس الاجتماعي الذي يشير إلى عدم الأمان والطمأنينة الذي يعاني منه الحبيب إزاء محبوبه، والذي يزيد على حرص وخوف الأم على ذلك المحبوب.

 وفي النص الثاني أوهم المرسل بالعدد (90) كمعادل لفظي ومعنوي لمفردة (تسعين)، التي تعني الفعل الإرادي لإلحاق العذاب بالمرسل (الحبيب)، إذ يكشف هذا النص عن نسق سادي يمارسه المحبوب رغبة منه في إشعال جذوة المحبة، أما النص الثالث فهو يخفي نسق التسليم لإرادة الله في عدم قدرة المحبوب على الاحتفاظ بوجود الحبيب في حياته، ويؤكد علىٰ إمكانية تعويض الغياب بحضور آخر بعد رحيل المحبوب، فقد اشتركت النصوص الثلاثة في وجود نسق الهجر والبعد والخوف، كنسق فاعل في العلاقات الوجدانية في المجتمع العراقي، نتيجة للأعراف والتقاليد التي لا تسمح بتوفير فرص اللقاء بين الأحبة، وظهور بنية الحرمان والعذاب والشوق كبنى مركزية هيمنت على تلك العلاقات .

وفي المجموعة الثانية من نصوص (كتابات على المركبات) يتبدّىٰ النسق الاجتماعي الذي يمتدّ في تضاعيف الظواهر الاجتماعية الفاعلة في البنية الاجتماعية العراقية، إذ أسهم هذا النسق في صياغة جملة من المفاهيم تُحيل إلى ما وراء الظاهرة، أي إلى مسبباتها وأثرها في تكريس نمط أو سلوك اجتماعي مؤثر حتى في تكوين الشخصية العراقية، ولعل في النصوص المختارة التالية ما يؤكد ما ذهبنا إليه، وسيظهر لنا من خلال تحليل تلك النصوص، النسق الاجتماعي المضمر  الذي أسهم في صياغتها وبالتالي شيوعها كمفاهيم قارّة، وكما يلي :

  --1 ( اليزرع زين يحصد للجنازة جتاف ).. نص على خلفية سيارة خصوصي .

  --2 ( لو كان لي أب لما عشت هكذا ).. نص على خلفية مركبة تك تك .

  3 -- ( المنجل من تعلگه يشوف روحه هلال ).. نص على خلفية سيارة أجرة .

  ففي النص الأول وعبر ثنائية الزرع والحصاد، فإن المرسل استثمر ما تنتجه هذه الثنائية المترابطة في الفعل واقتران نتيجة الحصاد بما يتم زرعه، ليس على صعيد حتمية الحصاد التي أفضت إليها عملية الزرع، وإنما تأكيد نوعية الزرع التي تفضي إلى حصاد متفق تماما مع نوعية الزرع ، ففي النص إشارة إلى أن ما تفعله من خير إلى الناس، سيفضي إلىٰ وجود من يتكفّل بالاهتمام بحملك على الأكتاف يوم مماتك، ولعل النص قد استعار مفردتي الزرع والحصاد من المثل الشائع (تحصد ما تزرع)، أي ما تفعله من خير أو شرّ فإنك ستجده حاضراً في تعاملك مع الآخرين، كما نجد أن هذه الإشارة واستثمار المثل حتى من النسق الديني، الذي يشير إلى أن ما تفعله تجده مستقبلاً حاضرا، فعمل الخير أو الشرّ سيكون المعيار الذي سيتم وفقه التعامل معك لاحقاً ، إذ إن معيارية هذا التعامل أحد مفاعيل العلائق الاجتماعية بين أفراد المجتمع العراقي .

 أما في النص الثاني، فإن ظاهرة اليُتم وما تؤول إليه من أثر مفجع في الفرد تبدو واضحة، فالنسق المضمر ينتظم حالة اليتيم بعد فقد الأب الذي يتكفل بإعالة الأبناء ويهتم بهم، وإذا ما غادر حياتهم وفق أي صيغة، سواء كانت موتا أو غيابا، فإن أثر ذلك سيظهر لاحقاً عبر معاناة الأبناء من الضياع والعوز الذي يدفع الأبناء إلى مزاولة أعمال أو أفعال اضطرارية، قد تكون سبباً في تحمل أعباء الحياة وشظف العيش، الأمر الذي كان وجود الأب سيجنبهم مكابدته، ولعل في مفردة (هكذا) إضمارا متّسعا لظهور أكثر من حالة استثنائية نتيجة لعدم وجود الأب، وهي حالة واضحة المعالم في المجتمع العراقي وتشكّل ظاهرة اجتماعية عانى منها ويعاني الأبناء من حالة فقد الأب .

 وفي النص الثالث، يستعير المرسل شكلين مألوفين للمرسل إليه، هما ( المنجل والهلال) المتشابهين في رسم ملامحهما الخارجية، إلّا أنهما مختلفان في الدلالة، ليشير إلى نسق اجتماعي مضمر مألوف في البنية الاجتماعية، هو حالة الغرور والتباهي في غير موضعه، وتظهر هذه الحالة في موضع رفع الفرد إلىٰ مكانة اجتماعية أو غيرها وهو ليس بالأهلية التي تجعله يستحقها، فيصاب بالغرور والتبختر والتباهي، ويفضي ذلك إلى ارتباك في التصرف والتعاطي مع الأمور بصورة خاطئة، بسبب وضع الفرد في غير المحل الذي يستحقه، وهذه الظاهرة المتفشية في المجتمع العراقي أحد الأسباب التي تحدث خللاً وارتباكاً في العلاقات الاجتماعية .

نخلص من معاينتنا التحليلية السريعة إلى النصوص الكرافيتية السالفة، إلى أن هناك أنساقاً وجدانية واجتماعية مضمرة، إذ استعان المرسل بالاستعارة والتشبيه البلاغيين، ليُخفي مفهوماً أو حالة اجتماعية ووجدانية فاعلة في البنية الاجتماعية العراقية، كما أن سلطة المرسل بدت واضحة عبر بث رسالة مجهولة المصدر، لتكون شموليةً تعبر الخاص لتستقر في المفاهيم العامة، كحالات تعبيرية عما يعتمل في البنية الاجتماعية العراقية من علاقات فاعلة وظواهر قارة .