علي العقباني
إنَّ الرابط بين السينما والرّسوم المتحرّكة ليس حركةً على التّوازي كما يبدو لأوّل وهلة، بل هو ترابطٌ عضويّ تمتزج فيه كلّ مكوّنات الشّكلين الإبداعيين، فالقصّة هي القصّة، والسيناريو هو السيناريو، والإخراج هو الإخراج، الأمر المختلف الأكثر وضوحاً، والذي يشكّل علامةً فارقةً، هو أَنّ المبدع في الفيلم الحيّ يقومُ باقتصاص الصّور ممّا هو موجودٌ حولنا - من أشخاص ومناظر طبيعيَّة ومكوّنات حياة يوميَّة وآلات – ويعيد تشكيلها وتوظيفها وفق تصوّرٍ دراميٍّ وروائيٍّ مسبق. أمّا في أفلام الرّسوم المتحرّكة، فمبدعوها يخلقون تلك الصّور من خيالاتهم، ويشكّلونها كما يشاؤون، ليكوّن ذلك الإبداع قيمةً مضافةً على الرّواية مقارنةً بالفيلم الحيّ، فينفتح الخيال إلى أوسع مدى، وتسقط القيود الفيزيائيَّة عن حركة الشخصيّات وأشكالها والأحداث التي تدور داخل الحكاية، فتصبح القصّة بحراً واسعاً من الإبداع الذي لا يحدّه سوى قرار المبدع، وانطباع المتلقّي. وما أفلام الخيال العلمي – وخصوصاً الحديثة منها – سوى مزيجٍ من الرّسوم المتحرّكة (ثلاثيَّة الأبعاد غالباً) والتمثيل الحي.
بدايات السّينما كانت في العصور الحديثة مبنيَّة على الرّسوم المتحرّكة، قبل تمكّن الإنسان من توثيق الزّمن، وتعليبه على شكل صور فوتوغرافيَّة، وهي فكرة دغدغت مخيلة البشر طويلاً قبل اختراع الفوتوغراف. فبعد اختراع السينما أصبحت الرّسوم المتحرّكة عملاً سينمائيّاً مستقلّاً، إلّا في حالاتٍ نادرة هي الأفلام المشتركة بين الرّسوم المتحرّكة والتمثيل الحي، لكن سحر الصّورة البشريَّة على الشاشة جعل من الرّسوم المتحرّكة منتَجاً سينمائيّاً أقلّ أهميَّة ومتابعةً وجمهوراً، رغم إطلاق والت ديزني لقطار إنتاجاته الجبّار الذي وضع هذا النّوع من الإبداع على سكّة الإنتاجات السينمائيَّة الكبرى من ميزانيَّة ومشاهدين وإيرادات، ليتبعه بعد ذلك المنتجون الأميركيون والأوروبيون واليابانيون بعد ذلك.
وعلى الرّغم من النّظرة العامّة عالمياً إلى هذا الفن، كفنٍّ يسير على هامش السينما، فإنّ له مكانته الكبيرة في العالم المتحضّر، وخصوصاً في اليابان. ولكنّ حضوره في قائمة المشاهدات العربيَّة يبقى ثانويّاً مرهوناً بمزاج عامٍّ لا يعيره الكثير من الاهتمام، ومنتِجٍ لا يحبّ المقامرة.
في هذا الكتاب "الرسوم المتحركة والسينما" لمؤلفه حسام وهب وهو فنان ورسام كاريكاتير وأنجز أعمالاً بتقنيَّة الرسوم المتحركة، وله العديد من المعارض والاهتمامات، يسلط الضوء بداية على جانبٍ آخر من السينما وهو عالم الرسوم المتحركة، الذي بدأ قبل السينما بكثير، وارتبط ارتباطاً عضوياً بمجموعةٍ من الفنون أهمّها الكاريكاتير وخيال الظل، ورسوم الأطفال، فضلاً عن ارتباطه الطبيعي بعددٍ كبيرٍ من تقنيات الإنتاج السينمائي. ثم يستعرض بدايات سينما الرسوم المتحركة، التي انطلقت من أوروبا أولاً إلى أميركا لتنتشر بعدها إلى أصقاع العالم، وتتقولب بمدارس وأساليب مختلفة حسب كل بلدٍ وكل ثقافة. بعدها يتناول بالتفصيل تأسيس امبراطوريات الرسوم المتحركة في الولايات المتحدة، وكيف تمكنت من أنْ تحول هذا النمط الفني إلى إنتاج سينمائي ضخمٍ له مؤسساته وأساليبه التي أثرت بشكلٍ كبير في جميع المتلقين حول العالم. ثم سينما الرسوم المتحركة الأوروبيَّة والتي تمتلك أسلوبيَّة خاصة على الرغم من كميات إنتاجها القليلة مقارنةً بأميركا، ثم يستعرض تاريخ الرسوم المتحركة في اليابان، الذي يختلف كأسلوب تنفيذٍ وقصة وشخصيات عن بقيَّة الإنتاجات في العالم، وتأثير اليابانيين في متلقي الرسوم المتحركة في العالم كله، من حيث غزارة الإنتاج وأسلوب الحكاية المختلف، وكذلك التعاطي المختلف من قبل اليابانيين لهذا الفن عن بقيَّة العالم.
في هذا الدراسة الموجزة نسبياً كما يراها الكاتب نسبةً إلى تاريخ الرّسوم المتحرّكة الطويل، بحثٌ مختَصرٌ في الجانب التّاريخيّ لهذا الفن وتطوّره، وارتباطه بخيال الظلّ والكاريكاتير و السينما لاحقاً، يليها نظرةٌ على تاريخ الرّسوم المتحرّكة في البلدان الأكثرِ إنتاجاً، واستعراضٌ لمجموعةٍ من الأفلام التي تمثّل علاماتٍ فارقة في الإنتاج المحليّ أو العالمي في تلك الدّول، على المستوى التّقني، أو الرّوائي.
كما واستعراض الكتاب أفلام الرّسوم المتحرّكة في العالم العربي على ندرتها – بما فيها التي أنتجتها دول الخليج، وهي أفلامٌ أنتجت في الخارج بقصّة إسلاميَّة الطابع غالباً – لم ترقَ إلى تراث الحكاية في المنطقة، وهو تراثٌ ليس غنيّاً فحسب، بل يمكن القول بأنّه من أغنى ينابيع الحكايات في التّراث البشري، وأحد الأدلّة على ذلك إنتاج الأميركيين والأوروبيين واليابانيين لعددٍ كبيرٍ من حكايات الشرق العربي، بينما أبناء هذا الشرق لا ينتجون إلا النزر اليسير من الأفلام مستعينين بحكاياتٍ غربيَّة، أو بقصصٍ من الفتوحات الإسلاميَّة - التي على أهميّتها - لا تشكّل باباً للتّوزيع في صالات السينما في العالم، وبالتّالي إغلاق الباب أمام المردود المالي لتلك الأفلام واستمراريَّة إنتاجها. فسينما من دون ريع، هي عملٌ إبداعيٌّ من الصّعب استمراره والبناء عليه أو تطويره. فضلاً عن أنَّ تلك القصص لا تشكّل منافساً ممتعاً للطّفل في المنطقة العربيَّة الذي ينجذب بشكلٍ تلقائيٍّ إلى حكايات الأفلام الغربيَّة أو اليابانيَّة ذات الحكايات الممتعة والحبكات المدروسة بعناية، لجذب شرائح عمريَّة مختلفةً من فئاتٍ اجتماعيَّة وعرقيَّة متعدّدة.
الكتاب تناول نقداً مفصلاً لأكثر من عشرين فيلماً كانت علاماتٍ فاصلةً في سينما الرسوم المتحركة، في أميركا وأوروبا واليابان والوطن العربي.