ما قبل الكتابـة
عاشت اغاثا طفولتها السعيدة في توركواي في الجنوب الغربي من بريطانيا، مع أمها الارلندية كلارا، وأبيها الاميركي فريدريك ميلر الذي درس في سويسرا، وأختها الأكبر مارغريت وأخيها لويس، وحرص والداها على تنويع دراستها بين الرياضيات والموسيقى والأدب، فبرعت في العزف على الآلات الموسيقية والتمثيل في المسرحيات المدرسية والتدريب المنزلي على القراءة والكتابة، ولكن طفولتها السعيدة انتهت بوفاة والدها، عندما كانت في عامها الحادي عشر، وبعد أن أكملت دراستها الثانوية في أهم ثلاثة معاهد محلية كانت تتشوق لاكتشاف الثقافة الفرنسية، فغادرت إلى باريس وانتسبت إلى ثلاثة معاهد على التوالي خلال خمس سنوات، وحينما عادت من باريس عام 1910 وجدت أن أمها مريضة، وأن الأطباء نصحوها بالاستجمام في مناطق دافئة، فسافرت اغاثا مع أمها إلى القاهرة، ونزلا في “ فندق قصر الجزيرة “ ثلاثة شهور، تخللتها زيارات متعددة إلى المتحف المصري والمواقع الأثرية والسياحية، وأنجزت بعدها أغاثا رواية متعثرة بعنوان “ ثلج فوق الصحراء “ وبعض القصص القصيرة، التي لم تنشر.
بداية الصعود
كانت اغاثا تقرأ كل أنواع الكتب التي تجدها، ولكنها انجذبت إلى الروايات والقصص البوليسية القليلة، ومنها روايتا الكاتب البريطاني ويلكي كولينز “ ذات الرداء الأبيض “ و القمر الحجري” وسلسلة قصص السير كونان دويل “ شيرلوك هولمز “، وأعمال الكاتبين الاميركيين ريموند شاندلر وادغار آلن بو.
تطالعنا في بعض روايات اغاثا وقصصها شخصية مميزة، تشكل القاسم المشترك في الأحداث المختلفة، هي المحقق هرقل بوارو الذي ظهر في ثلاث وثلاثين رواية بوليسية، وأربع وخمسين قصة قصيرة، واستوحت اغاثا شخصيته من ضابط بلجيكي كان يدير عمليات إجلاء المهاجرين والجرحى إلى لندن بعد أن اجتاح الالمان بلجيكا في الحرب العالمية الأولى، وحددت ملامحه وطباعه، فهو بيضاوي الوجه وله شاربان مفتولان، وهو أناني، ولكنه يتميز بذكاء خاص، وبرز في أهم أدواره في رواية “جريمة قتل روجيه اكرويد”، واشتركت معه المحققة الموهوبة مس ماربل، التي ظهرت في 12 رواية من أعمال اغاثا، التي تقارن بين عمل المحقق البوليسي وعمل المنقب عن الآثار.
حب وزواج وطلاق
التقت اغاثا بالضابط الطيار ارشي كريستي في قصة حب عام 1912 واتفقا على الزواج، واستمرت فترة الخطوبة عامين، وتزوجا في نهاية عام 1914، ثم انتقلا إلى لندن في الظروف الصعبة التي واكبت اندلاع الحرب العالمية الأولى، حيث انضمت اغاثا إلى فرقة المتطوعين في المستشفيات، بينما كان ارشي يتنقل بين فرنسا وبريطانيا، في مهمات حربية، ولم يستقر بهما المطاف إلا بعد نهاية الحرب1918، وفي العام التالي ولدت ابنتهما روزالند التي عاشت مع أمها، بعد طلاق الزوجين عام 1928.
في عام 1926 اختفت أغاثا فجأة لمدة أحد عشر يوماً، بعد أن غيرت ملامحها، ونزلت في فندق مغمور وادّعت أن اسمها تيريزا نيل، من كيب تاون في افريقيا الجنوبية، وشغل اختفاؤها الصحافة العالمية والناس ومنهم 15000 شرطي بريطاني كُلفوا بالبحث عنها، وخصصت إحدى الصحف جائزة لمن يعثر عليها، وكان اختفاؤها رداً على طلب زوجها الطلاق منها ليتزوج من امرأة أخرى، وتحولت حادثة الاختفاء إلى فيلم سينمائي بعد خمسين عاماً، من إخراج مايكل ابتيد وبطولة فانيسا ريدغريف و داستن هوفمان.
إن ولع اغاثا بتنويع المكان والزمان قادها إلى استحضار الماضي البعيد، ومعاينة المكتشفات الأثرية في الشرق، وكان لها أصدقاء ممن عملوا في الحفريات الأثرية في العراق، فسافرت والتقت عام 1930، بين أطلال مدينة اور، بخبير الآثار ماكس مالوان، الذي تكبره بخمسة عشر عاما، فتزوجا وعملا معاً في الحفريات الأثرية في نينوى و أور ونمرود والأربجية، قرب الموصل .
نزعة الكتابة اليومية
تركت أغاثا إرثاً غنياً من الروايات والمسرحيات البوليسية الأكثر انتشاراً في الأدب العالمي الحديث، فنشرت 66 رواية بوليسية و 153 قصة قصيرة في 14 مجموعة قصصية و 19 مسرحية، ومجموعتين شعريتين، ونشرت ست روايات عاطفية تحت اسم مستعار هو “ماري ويستماكوت “.
وكانت اغاثا حريصة على عادة الكتابة اليومية، واختيار أفضل الزوايا في أفضل الفنادق، لتنفرد وتواصل الكتابة بطابعتها الصغيرة في مواعيد محددة، بينها موعد شرب الشاي في الساعة الخامسة عصراً.
درست اغاثا كل ما يتعلق بالأدوية و السموم وأساليب العلاج، مما ساعدها على توصيف جرائم التسمم ودقة النتائج التي يصل إليها المحققون في تشريح الضحايا و الكشف عن المجرمين، إلى جانب تحليل شخصياتهم ودوافعهم الشائكة، واختيار الأزمنة والأمكنة المختلفة لكل جريمة، ففي رواية “ جريمة في قطار الشرق السريع” تُكتشف جثة الضحية في الساعة الخامسة صباحاً في القطار المتوقف في محطة حلب، وفي رواية “ موت في النيل “ جرت الجريمة في سفينة، وفي رواية “ موت بين الغيوم “ حدثت الجريمة في طائرة، بينما جرت جريمة أخرى في مكتبة.
كما كتبت روايتين استوحتهما من ذكرياتها في العراق وهما “ جريمة بين النهرين” و “ الذين وصلوا بغداد” ومجموعة قصص وقصائد من وحي زيارتها إلى القدس بعنوان “ نجمة فوق بيت لحم “، ونشرت قصة “جريمة في البتراء “ من وحي زيارة الأردن، وقصة “بيت في تبريز” من وحي زيارة ايران.
في عام 1950 بدأت اغاثا بكتابة سيرتها الذاتية في منزل هادئ في موقع النمرود، واستمرت في كتابتها، إلى جانب كتاباتها الأخرى، ولكنها لم تنشر إلا بعد وفاتها عام 1976، عن خمسة وثمانين عاماً، وهي مثقلة بالجوائز والأوسمة والتكريمات.