شاكر الأنباري
كانت تسمى المدينة الفاضلة، وبعد عقود تحولت إلى آخر المدن، في زمن مضطرب يغلي بأحداثه وتحولاته. وقد طبعت الرواية هذه قبل أكثر من ثلاثة عقود، وهي تتناول تجربة الأنصار في كردستان العراق، حيث أعاد زهير كتابتها من جديد بعد التغرّب الطويل، ونضج الرؤية، فأضاف شخصيات جديدة ومسارات أخرى للأحداث. وابتكر لها عنوانا لافتا، فجاءت، كما يقول الكاتب في البداية، وكأنها رواية أخرى.
وهي تجربة يمارسها بعض الكتّاب على مر العصور، وفي مختلف البلدان. وهنا نرافق الراوي، وهو يحكي بضمير الجمع، ثلة من الأشخاص خرجوا من مدن تسيطر عليها السلطة الديكتاتورية وتوغلوا في الجبل. وكان عليهم منذ لحظة وصولهم إلى بر الأمان، أي الجبال، تشييد معسكر صغير يؤويهم، واكتشاف هذه البيئة البكر، الغريبة على حواسهم كلها.
الأساطير، الجبال، التقاليد الموغلة في القدم، وهي تقاليد وأساطير يحملها الرجل المسن المسمى البختيار، الرجل الدليل المنتمي إلى المكان، فيما بزغ القائد السياسي بهاء ليبدأ معهم مهمة القتال. يدخل الفصيل قبل الشتاء في معركة بناء المدينة الفاضلة، مدينة الثائرين على الظلم، الحالمين بتأسيس نواة الثورة: بناء مخازن، وغرف للنوم، ومدرسة لتعليم أبناء القرى المحيطة، وساحة للتدريب بالذخيرة الحية، وتأسيس مستشفى مؤقت. يقود كل ذلك ضابط من ضباط المشاة تمرد على جيشه السابق.
وكان الزمن زمن حرب بين العراق وإيران، وانفراط عقد الجبهة الوطنية، وملاحقة قوى اليسار، وصعود مرعب للديكتاتور الذي كان يحصي أنفاس شعبه. وضمن تلك البيئة القلقة، سياسيا واجتماعيا، ولدت فكرة الثورة، ومثّل مبادئها القائد بهاء.
وبهاء قائد سياسي للرفاق، تمثل تجربته في النضال تجربة حزب طالما عانى من السجون والتعذيب، وهو في جانب منه تاريخ لما حدث للعراق كبلد.
وقد دفع بهاء ثمنا باهظا من السجن والمطاردات والتخفي. حتى أن زوجته قتلت تحت التعذيب، وهذا ما صار دافعا له كي يمنح نفسه، نهائيا، لحركة الأنصار وحزبها. وفي خضم تلك التحولات لم تقتصر الثورة على الرجل، بل كان للمرأة الثائرة دور يجسده الكاتب بطريقة مبتكرة.
مداواة الجرحى، المشاركة في البناء، مسؤولية الإعاشة، والتنظيف لأمكنة المدينة الفاضلة، ورفع معنوية المتخاذلين واليائسين. معاناة المرأة العراقية التي طالبت بحقوقها لم تتمثل بالسجن والتهميش والقتل فقط، بل إن تمردها على السائد قادها إلى الاغتصاب والتعذيب على يد أجهزة الأمن، وظلت تلك التجربة تلاحق سمية، على سبيل المثال، حتى حين قررت الانتماء إلى حركة الأنصار.
سمية، والدكتورة عشتار، وبهاء، وهشام، والبختيار، والمقاتل العتيق خضر، وأسماء كثيرة لأشخاص يشاركون في صناعة المدينة الفاضلة، في فخ حياة استثنائية لا يحكمها سوى الحلم، والتمرد. ومعظم تلك الأسماء حركية كي لا تقع عائلاتهم في أيدي السلطة. كل شخصية من تلك المجموعة لها فرادتها، وتحمل إرثا جماعيا هو إرث العراق. شخصية الشاعر مثلا، وهو ينظر إلى الحياة بعينين تريان سحر الطبيعة وتلاوينها وأشكالها.
الشاعر الذي هرب من الحرب والتحق بالأنصار إلا أن ذاكرة الحرب لا تريد أن تفارقه.
الجثث المحترقة والدبابات المدمرة والأفق المصبوغ بالغبار والدماء. أساطير المكان والقرى الجبلية، والمؤامرت، والخوف من المجهول، ليجد القارئ روحه منغمرة في يوميات حياة الأنصار الذين جاؤوا من مختلف المدن. يوميات تروي تقدم الجيش وقصف المدافع وتحليق الطائرات. وتروي أيضا الصراع الأزلي بين الوقائع والأساطير، وغرابة الحالات الانسانية التي ترافق حياة ثوار متمترسين في الجبل، وتحديدا في المنطقة التي عرفت بـ (بشتاشان).
الخيانات ودسائس المجتمع ومتنفذيه، التحصن بالجبال، ومعايشة الطبيعة الوعرة البكر، كل ذلك دفع الكاتب لابتكار لغته الخاصة، اللغة المتولدة من تفاصيل المكان، وأساطيره، ومسمياته. وعلى سبيل المثال راح الشاعر النصير يكتب قصائده من وحي مفردات البيئة التي تحيطه، شجرة الجوز، والصخور، والبغال، وثياب النساء الملونة، والسماء المتبدلة الآفاق فوق الصخور، وأصوات الحشرات الليلية، وكوابيس المقاتلين. ومنح ذلك النمط من السرد نوعا من الإضافة إلى لغة الروايات السائدة، المكتوبة في مكان مديني.
والملاحظ أن نص زهير، بأحداثه، وشخصياته، وخيالاته المحلقة فوق القرى الكردية والمدن البعيدة، لا يجد القارئ له إلا صلة شاحبة مع ما كان يجري في العراق من حرب ضروس مع إيران، ولا عاد بالذكريات إلى ماضي الشخصيات وأسباب اختيارهم لطريق الثورة المسلحة ضد النظام آنذاك.
حاضر المرحلة تلك فقط، وكأن الكاتب أراد أن يقتطع عيّنة من كابوس ماض، يعيد فيها الحياة لتكون عبرة للأجيال القادمة. ذلك بعد أن توارت المدينة الفاضلة من الوجود، وتركت أثرا من كلمات قاسية، دموية، تجاوزها الزمن.