السّرد الحلمي.. نمطٌ جديدٌ من الكتابة

ثقافة 2024/02/14
...

 د. سمير الخليل

ليس من المستغرب أن تكون تجربة الكاتب كريم محسن الخياط تؤسس لنمط من الكتابة الجديدة في كتابه الموسوم بـ (أحلامي مثلما هي في المنام)، إذ سعى فيها إلى تدوين أحلامه عبر تقنيّة (السرد الحلمي) وقسم أحلامه على شكل نسق سردي قصصي تضمنت كثيراً من الحكايات والمواقف الحياتية التي تمزج بين الخيال والواقع والفانتازيا والتداعيات والتأملات مما يجعلها بمثابة كشف سيكولوجي وسيسيولوجي قدم فيه تجارب تحمل كثيراً من الرؤى والأفكار والقيم وتميّزت أيضاً بوصف الأمكنة الكثيرة من المدن والأحياء والشوارع والأسواق والجامعات والبيوت إلى جانب لمحة من الأحداث التي ارتبطت بذكر الأسماء الحقيقية لأفراد عائلة الكاتب وأصدقائه وزملائه مع ذكر أسماء الأدباء من نقاد وشعراء ومسرحيين ومثقفين مما يمنح التجربة أيضاً جانباً من التوثيق الحياتي والثقافي فضلا عن تنوع الأجواء والاحالات عِبر فضاء يحمل كماً ونوعاً وارتحالا في مساحات مفتوحة ودالة .

وقد يكون (السرد الحلمي) مصطلحاً جديداً يحتاج بطبيعة الحال إلى تأصيل على مستوى التأسيس والتوصيف وشرح مضمونه وطبيعته وتداعياته ويتداخل هذا التوجّه في إشكالية التجنيس بطبيعة الحال فهناك سرد وشخصيّات وأمكنة وأزمنة وفضاء سردي، لكنه لا ينتمي إلى فن القصّة القصيرة أو المقالة أو (الريبورتاج الصحفي)، أو التداعيات السيكولوجية مع أنّه قد يتداخل مع هذه الفنون لكنّه يختلف في الجذر والتأصيل، والأخذ من بنية الحلم وتحويلها إلى (سرد حلمي)، وبهذا يضمن نوعاً من الاختلاف والإنفتاح على طبيعة الحلم وخصائصه المقترحة بأنّه عبارة عن ذاكرة (منفلتة) تتنّقل وتنقل بحرّية واسعة متحررة من كل شيء، وكل ما هو متوقّع وغير متوقّع ولذا نجده يحادد ويتحايث مع فضاءات الفانتازيا والغرائبية والعجائبية والمفارقة الحادّة لأنَّ الحلم هو عبارة عن بنية مفتوحة لا تحدّها حدود ولا تقيدها قواعد ولا يرتبط بالمنطق الواقعي أو قوانين الواقع من سببيّة وتوثيقيّة دقيقة ومن حبكة متوقعة أنه ارتحال باتّجاه اللامألوف واللامتوقّع واللاّمفكر فيه، وبهذه الخصائص يكون قد امتلك حريّة الخلق والتحليق ومقاربة المسكوت عنه إلى جانب وجود سلطة الوعي إذا ما أدركنا أن الكاتب -الحالم- قد قام بجمع أحلامه وتدوينها تحت سلطة التذكّر وسلطة الوعي مما منحها صدقاً وعفوية حيث لجأ إلى إحصاء الأحلام بحسب السنين وعلى مدى خمسة أعوام من 2015 إلى عام 2019 وترك لنفسه طاقة استعادة الحلم وتدوينه لكي لا يهرب من فضاء الذاكرة، ومن البديهي أنَّ الكتابة الاستعادية للحلم تمثّل تجربة سايكولوجية أخرى حين يتدخل وعي الكاتب في استيهامية الحلم لتنتج لنا سرداً حلمياً عميق الدلالة وينطوي على تنويع واختزال ومزج أكثر من رؤية وعوالم وتداعيات وقد تتحوّل الكتابة الحلمية إلى نوع من القناع أو الفخ الجمالي لكسر النمط والنوع الإجناسي وتقديم الثيمات والمضامين تحت مسمّى 

السرد.

إنَّ أبطال السرد الحلمي كانوا أيضاً واقعين من المقربين للكاتب والأمكنة اكتسبت واقعيتها من كونها أماكن حقيقية كبيت أو شارع ومرآب العلاوي ومدن الفلوجة والحلة والديوانية وبغداد والمدحتية ومدينة الثورة في بغداد، وديالى وغيرها من المدن والأحياء والأزقة الحقيقية، فالمكان واقعي تماماً ويتناقض مع الزمن الذي كان زمناً حلميّاً إن صحّت التسمية ويتقاطع مع المفهوم الفيزيقي والفيزيائي والطبيعي وقد نجد كثيراً من الأحلام وهي تروى في هلامية تامّة خالية من الزمن والمحدّدات الواقعيّة فهي تنتمي إلى المتخيّل السردي الحلمي المفتوح.

ومن المفارقات أن يذكر أو يثبت الكاتب في نهاية أو خاتمة الكتاب أسماء الأصدقاء والأدباء المعروفين في قائمة خاصة ويعرّف بهم ببيولوغرافية مختصرة، وقد تكون تجربة الكاتب وفق هذه التوصيفات تقع في مسار التجريب والكتابة الجديدة في التعامل مع الأحلام وتدوينها ومن هنا امتلكت التجربة خصائصها على مستوى التجنيس والانفراد، وعدم اتباعها أي نوع أدبي أو جنس كتابي وتلك هي التجريبية وإيجاد النمط الجديد الذي قد يتحوّل إلى نمط من الكتابة السردية الحلميّة المستقلة التي تختلف عن موتيفات أو مقاطع الحلم والحلمية التي ترد ضمن السرد الروائي والقصصي، وهي بطبيعة الحال تختلف عنه لأنها تكرّس الكتابة وتجيّرها في إطار الحلم الخالص.

وقد تضمن الكتاب مئة وستة وثلاثين حلماً بحسب الترقيم لكلّ سنة مع ذكر ليلة الحلم باليوم والشهر والسنة وهذا سعي توثيقي، وقد اختلفت الأحلام في مضامينها ومواقفها ودلالتها، كما اختلفت في حجمها ومساحتها وتراوحت بين الحلم الطويل والمتوسط والقصير .

وقد نوّه الكاتب في مقدمته التي أسماها (تنويهات) بقوله “حينما وجدت بأني أحلم كثيراً راودتني فكرة تدوين أحلامي، لكني كنت استصعب التدوين بسبب الكتابة بعد اليقظة مباشرة لإحساسي بالحاجة إلى النوم وبسبب النسيان الذي يهجم عليّ بعد الحلم، فقد تردّدت كثيراً بين التضحية بحكايات أحلامي والتضحية بلذّة النوم وأخيراً اتخذت قراري في أن أدوّن ما أراه في مناماتي، فكان مطلع عام 2015 هي بداية التدوين، لم أشعر بالتعب الجسدي والفكري في كتابة شيء بقدر ما شعرت به في أثناء كتابة هذه الأحلام، وكثيراً ما تأتيني الأحداث الكثيرة دفعة واحدة وكأنّها تنتقل إلى عقلي الظاهر بفلاش ميموري دفعة واحدة مما يجعلني أفقد السيطرة على الموضوع فتتحول لغتي إلى جمل أشبه بالشفرات القصيرة” (أحلامي: 7).

وبسبب تعذّر تناول هذا العدد الكبير من الأحلام فإننا سنذكر نماذج من هذه الأحلام لكي تنقل أجواء التجربة ومضامين الأحلام ومقارباتها التخييلية والواقعية والفانتازية، وقد اتسمت طريقة السرد الحلميّ بالتركيز على السرد الذاتي (بضمير المتكلم) مع ذكر الأسماء الحقيقية وصفاتها ونمط علاقتها بالكاتب كمثل قوله: أخي أو ابن أخي أو ابنتي أو صديقي أو جيراني... إلى آخره، في الحلم الأول المؤرخ في 3/1/2015 يذكر الكاتب ما نصه : “كرات بمختلف الأحجام تتدحرج في مزار ما، الكلّ يحاول الهروب من المزار، أطفال يطرقون أسفل أغطية البالوعات رفعت غطاء البالوعة وأنا أصرخ بالناس كي يساعدوني، أخرجت سبعة أطفال أحياء بثياب المدرسة ما زالت حقائبهم على ظهورهم، ولم أجد أحداً يساعدني وزهير هداد يقف إلى جانبي مبتسماً والأطفال المتبقون في البالوعة يصرخون بينما أنا اتهاوى من الإرهاق والتعب” (أحلامي: 10).

ويتخيل الكاتب في نهاية الحلم أنَّ حدثاً كونياً وقع وقد “كان صوت مذيع نشرة الأخبار يأتيني من بعيد هو يذيع خبر خروج الكرة الأرضية عن مسارها، ينقل عن علماء أن كوكباً قد اصطدم بكوكب الزهرة قبل دقائق، وأن كواكب المجموعة الشمسية بدأت تنفلت من جاذبية الشمس”، (أحلامي: 10)، والحلم عبارة عن فانتازيا تخرق قوانين الواقع والطبيعة وقد تقترب من نمط الخيال العلمي أو الأحداث الكارثية، وغالباً ما يكون الحالم هو المخلّص أو الساعي إلى إصلاح الخطأ أو تصويب الموقف.

وفي الحلم التاسع والثلاثين المؤرّخ في

27/ 2/ 2016 نقرأ: “بينما أنا وأياد نجلس في مقهى ما جاء أحدب نوتردام في ثيابه بلا حدبة لكنّ وجهه بدا كئيباً فسأله أياد : - شلون راحت الحدبة ! فقالت بنت بعمر الأحدب :عقدت شعري بشعره وسحبنا أطراف العقدة، وكان الخاسر من يتألم أولاً، وقد صرخت بثلاث خصلات فخسرت ولكن الكآبة وقعت عليه . لم أكن أرى الشابة قبل أن تتحدث، ولكن بعد أن نطقت الحرف الأول من حديثها ظهرت وشعرها معقود بشعر الأحدب، وحين قالت (سحبنا شعرنا) بدأ الشَّعر ينسحب دون أن يسحبه أحد، بينما كان الأحدب يردّد صدر بين شعري لخالد الداحي: هذا، أنا هذه ضوضاء اسئلتي. (أحلامي: 80).

والحلم مزيج فانتازي عجائبي ترد فيه أسماء واقعية لكن الحدث تمركز حول اللا متوقع وخارق للطبيعة من خلال عملية إزالة الحدبة عن شخصية (أحدب توتردام) مع استحالة وجودها واستحضارها إلاّ في سرد حلمي مفتوح وقد تعزّزت نهاية الحلم يذكر شعر أو نصف بيت للشاعر خالد الداحي من ديإلى مع ذكر الصديق في مستهل الحلم وباسمه الحقيقي أياد وذكر المقهى كمكان للحلم .

وقد تكررت بعض الأسماء في الكثير من الأحلام مثل زهير هداد، حسين القاصد، عارف الساعدي، حامد الراوي، ياسر الكبيسي، علي جواد الفحل وأولاده (سوزان، وآسيا، وأياد) والمسرحي سعد هدابي، والناقد السينمائي فراس الشاروط، والشاعر فوزي اكرم ترزي، وغيرهم من الأسماء والشخصيات الحقيقية .

تجربة (أحلامي... مثلما هي في المنام) تجربة تستحق التوقف والتأمل لجدّتها ومزجها عوالم مختلفة ومتباينة وصهرها في المتخيل الحلمي.