أوهام النخبة.. النقد الثقافي أنموذجاً

ثقافة 2024/02/14
...

 حسن الكعبي 

تخضع بعض التصورات الفكرية النخبويّة في المشهد الثقافيّ العربيّ والعراقيّ، لنوع من التفكير الارتيابي حيال المجتمع، وهو نوع من التفكير المريض المتسيد على أغلب التصورات الفكرية النخبوية، وقد دفع هذا النوع من التفكير بهذه التصورات إلى  وضع الحدود الفاصلة بين النخبة والمجتمع باعتبار أن المجتمع- في سياق هذه التصورات- يمثل المرحلة البدائية للوعي، بمخرجاته البسيطة والساذجة، ومن ثم فأن هذا التموضع للمجتمع في نطاق هذه المخرجات يجعله بمثابة جثث هامدة غير فاعلة كونها تمثل درجة الصفر في الفكر المؤثر في صناعة التاريخ.

 وما يحف به من منتجات إنسانيّة مبدعة وخلاقة، منوطة بتفكير النخبة في مسار صناعة وإنتاج الأفكار الخالدة الفاعلة في السيرورة التاريخية - حسب تصورات هذه النخب الواهمة- وهذا الاتجاه في التفكير يؤسس صراحة لمفاهيم العزل والقطيعة مع المجتمع والتأسيس لمدينة نخب طاردة، لكل ما عداها، اضافة إلى أن هذا النوع من التفكير تم تجاوزه، فقد ارتبط فيما مضى ببواكير الحداثة وعارضته تصورات ما بعد الحداثة، وعلى أيدي كبار المفكرين الذين وجودوا أن مفهوم العزل النخبوي يجرد المنجز الفكري أو الأدبي من تكامله وتواصله الإنساني ويجعله يسبح في فضاءات مفرغة من المعنى، الأمر الذي يعرض الأدب أو الفكر إلى الخطر بحسب تعبير - تودورف - الذي كتب دراسة مهمة بهذا الصدد تحت عنوان (الأدب في خطر).

إن العزل والتضاد نشأ مع بواكير الحداثة والعلمنة العنيفة في سياق توجهها للقطيعة مع التصور الكلاسيكي، وتحديدا الارسطي الذي كان ينظر إلى البويطيقيا أو الأدب بشكل عام بوصفه محاكاة للطبيعة ولمفهوم الانعكاس كما عند - جورج لوكاتش -ويشير الكاتب ادريس جنداري إلى أن هوارتيوس اعتبر (وظيفة الأدب هي المتعة والفائدة وحسب معارضا بذلك التصورات التي سادت في أوروبا المسيحية للقرون الأولى التي كانت ترى أن الشعر والأدب يستخدم لتبليغ وتمجيد مذهب معين، وتم خلال عصر النهضة ربط الشعر بالجمال، هذا الجمال الذي يتحدد بحقيقته وإسهامه في الخير. لكن هذا التصور للأدب تزعزع خلال العصور الحديثة، عبر طريقتين ترتبطان معًا بالنظرة الجديدة إلى العلمنة المتزايدة للتجربة الدينية، مما أدى إلى تقديس الفن ) أي بمعزل عن صلاته الخارجية وحمولاته الثقافية. من هذا المنطلق فإن - فيكو- فرق  بين اللغة العقلية واللغة الشعرية في سياق تعارضي وأنتج هذا التصور التفريقي رؤى وآفكار»اعتبرت الشعر والأدب إبداعًا لعالم ممكن بين عوالم أخرى». أي أن العمل الفني يطمح إلى إنتاج الجمال الذي لا يخضع لغرض خارجي- حسب ليسنغ- بمعنى أن لغة الأدب مكتفية بذاتها، ولا تحيل إلى ما هو خارجها، وهذا التصور هو الذي عبر عنه - جاك دريدا- ضمن مقولته الشهيرة (لا شيء خارج النص) التي تعتبر مانفيستو البنيوية، وأن اللغة العقلية هي اللغة التواصلية التي تحيل إلى الحمولات الايديولوجية والثقافية.

إن هذه التصورات النظرية والنقدية بطبعتها الرومانسية عرضت الأدب إلى الخطر ودفعت النقد إلى أزمته الحادة، فالنقد الذي يتابع المنجز النصوصي في هذا السياق النصوصي مجردا عن حمولاته الأيديولوجية، وهو بالمحصلة طفيلي يعتاش على النص عبر إنتاج نص مواز لا يؤدي وظيفة النقد بالإفهام، بل باغراق العالم بالنصوص التي هي الأساس في اشكالية الأزمة النقدية. 

وأزاء هذا الطريق المسدود الذي وضعت النظرية النقدية نفسها أمامها، كان لا بد من ايجاد حلولا تكمن بالعودة إلى التصورات الكلاسيكية واسهامات الماركسية بتصوراتها الطباقية والدراسات التاريخانية والثقافية عند (هايدن وايت)، فضلا عن توجهات ﻧﻘﺎد اﻟﺜقافة الذين جاؤوا ﻣﻦ ﻣﺠـﺎﻻت ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ، والتي تؤكد إن بمقدور اﻟﻨﻘـﺪ اﻟﺜﻘﺎﻓـﻲ أن ﻳﺸـﻤﻞ ﻧﻈﺮﻳـﺔ اﻷدب والجمال واﻟﻨﻘـﺪ بعامة، وكذلك اﻟﺘﻔﻜﻴـﺮ اﻟﻔﻠﺴـﻔﻲ من ضمن تحليلات (ﺗﻴﺮﻧﻴﺮ، ﻛﻠﻴﻔﻮد ﺟﺮﺗﻴﺰ، ﻓﺮﻳﺪرﻳﻚ ﺟﻴﻤﺴﻮن، وﻣﻴﺘﺸـﻞ ﻣﺎﻛﻠـﻮن، ﺿﻤـﻦ ﻓﻀـﺎءات اﻟﻨﻘـﺪ اﻟﺜﻘﺎﻓـﻲ المقـﺎرن)، ونظريات خطاب ﻣﺎ ﺑﻌﺪ الكولونيالية التي تبلورت إلى الدعوة لتبني النقد الثقافي بديلا عن النقد الأدبي النصوصي في دعوى -ليتش - في الفضاء الغربي، والتي وجدت أفضل تمثيلاتها في اشتغالات (تيري ايغلتون وادوراد سعيد) في كتبه (النص الناقد والعالم والاستشراق والثقافة والامبريالية)  التي استفاد فيها من تنظيرات (ميشيل فوكو) في مفهوم السلطة المحايثة التي تدرس علاقات النص وتأثيراته في المجتمع، وكيفية تلقي خطاب النص اجتماعيا وإعادة انتاجه وتمثيله في شبكة علاقاته.

أثرت هذا التوجهات على مسارات المشهد الثقافي العربي عبر الدعوة لتبني النقد التفافي منهجا في دراسة النصوص والخطابات النسقية التي تشتملها كانساق مضمرة تتحكم ببناء النص، وتكشف عن تناقضاته وشفراته المزدوجة، والدعوة إلى هذا المنهج في دراسة النص، وما يلتحفه من خطابات ظهرت ضمن دعوى الناقد الدكتور عبد الله الغذامي. ولم تأت هذه الدعوة إلا بعد اكتشاف الأوهام الكبيرة التي انساقت وراءها النخب والتي مثلتها دراسات علي حرب لأوهام النخبة والغذامي ضمن كتابه (المرأة واللغة) وفيما بعد (الثقافة التلفزيونية). إلا أنه بالرغم من ذلك فأن التصورات الواهمة ما زالت تفرض نفسها بقوة من ضمن النخب المراهقة، وتحت مظلة الدفاع عن النقد الأدبي واحياء مصطلحاته واجهزته والمفاهيم والتي سخر منها الناقد نادر كاظم، وهو يستعرض الأزمة النقدية بقوله (ما معنى أن تغرق النص النقدي بمصطلحات مثل أشكال التبئير السردي وصوت الراوي.. وغيرها من مصطلحات لا تعني القارئ بشيء ولا يفهمها إلا أصحاب الاختصاص. إنها باختصار نصوص تؤسس للأزمة وتغرق العالم بنصوصية مفرطة).

إن التصورات النقدية التي تحتكم للنقد الثقافي منهجا في قراءة النصوص ومستحثاتها النسقية، صدرت من أفق التوجهات الما بعد حداثية، وعلى الرغم من أن ما بعد الحداثة هي من التيارات الفكرية والفلسفية التي تدعو إلى (الفردانية والعزلة)، إلا أنها مع ذلك وفي سياق دعوتها إلى ربط النص بسياقاته المولدة له، فقد سمحت ببلورة فكر ربط النص بمجاله الدنيوي – كما اصطلح على ذلك ادوارد سعيد – ومن ثم فأن هذه التوجهات قدمت دراسات مضيئة في مجال دراسة النص وشبكة علاقاته بالسيرورات التاريخية والثقافية والاجتماعية وأثر الخطابات السلطوية وتحكمها في البنى النصية، بمعى أن هذه التوجهات هي من وضعت النقد في مسار قراءة النص وانشباكه بتاريخانيته وذلك على العكس تماما من القراءات النصية التي تدعو إلى براءة النص وانغلاقه عن سياقاته المولدة، والكامنة وراء ذلك النوع من التفكير المريض وأوهامه النخبوية.