المحرّض المعرفي للديالكتيك

ثقافة 2024/02/14
...

ميثم الخزرجي



إن المتبنيات التي بشّر بها الفلاسفة جميعهم جاءت نتيجة حراك معرفي غير مستقل عن سابقه، قد تختلف هذه المتبنيات أو تشترك في سياقات معينة نظراً لقناعات فكرية لها مسوغاتها، لذا من المؤمل أن الرؤية الجديدة ناجمة عن تفكيك الأسئلة المعنية بالكون والطبيعة والإنسان لتعطي وجهة نظر كاشفة عن محتواها ليكون المعيار الذي اتخذه صاحب الطرح هو الجدل القائم على شروحات ذات بعد قيمي نستدل عن طريقه إلى المعنى الحقيقي الذي أتى به هذا الفيلسوف ويسعى إلى الإمساك به وإشاعته بين الناس علانية، واقعاً، أن الجدل ولد قبل سقراط بأكثر من 500 سنة وهنا يكون القصد من ورائه الخروج بنتائج  تعيد صياغة الفرد وصيانته على وفق معطيات العالم الذي يعيش به أو قد تتجاوز حدود الأوان كونها ذات مساحة تسمح باستشراف المآل.
 لعلي أشير هنا إلى مفهوم الديالكتيك بوصفه المحرك الفعلي لإثارة الأسئلة الشائكة والإيغال في محتواها ومناقشتها للوصول إلى التصويب الناجع، بيد أن هذا التصويب جاء متسقاً بحسب التداعيات الإشكالية التي طرحها الفيلسوف نفسه متوقفاً عند مفاهيم عامة أخذت اشتعالها من الإنسان وصيّرته على أن يكون بهذه الشخصية مثل الخير والشر والفضيلة وحيازة الحقيقة وسؤال الغيب وما يضمره من أنساق وجودية ناهيك عن الشجاعة والخوف الخ، وكثيراً من القضايا الكبرى التي طالت حياة الفرد وأنهكت استقراءات الفيلسوف أيضاً، ومما لا شك فيه أن الكون برمته قائم على سؤال قد يكون عفوياً أو غير بريء وهذا الهاجس الشعوري بزغ منذ نشوء الخليقة وتأثيث الطبيعة بعناصرها الحية ليأتي الحراك الفكري مصاغاً على وفق المؤثرات التي تحيط بالإنسان. لكني أتساءل هل أن غاية الجدل وتحفيز مدخلاته هي السعي للوصول إلى المطلق؟ 

أجد أن بذرة الديالكتيك الأولى جاءت على يد الفيلسوف الإغريقي هرقليطس الذي أكد “أن كل شيء أصله النار” على  اعتبار أنها رمز التقدم والرقي، معللاً القول في  جملته الشهيرة “كل شيء في تطور مستمر” وقد تأتي المرحلة السقراطية التي اعتمدت على الجدل بوصفه معياراً ناجعاً للوصول إلى أجوبة للأسئلة الكونية التي استعلم عنها، وهنا يكون مذهب أتباع المدرسة المشائية الذين نوّهوا بأخذ آراء الأفراد في الطرق والأسواق ومناقشتهم في ردودهم حول القضايا المصيرية التي تعنى بهم. حقيقة الأمر أجد أنها طريقة لتحفيز الذهن واستنطاق المؤهل العقلي الذي يشيّد الإنسان ويحرّضه على التفكير، وقد ذكر أفلاطون في جمهوريته هذا الزعم الذي تبناه أستاذه.

بينما نجد السلوك التي اتبعه أرسطو المعلم الأول صاحب المنهج الاستقرائي الذي يقوم على الاستدلال المنطقي بالإيجاب أو السلب مع عدم جواز جمع النقيضين في وقت واحد، وقد أثّر وكتب في شتى العلوم  الطبيعية والإنسانية وقيل انه كان يتمشى في حديقة مدرسته (الليقيون) ووراؤه جمعٌ من التلاميذ منهمكين بماهية الأسئلة التي يطرحها ليكون الاحتدام الفكري متضارباً بنتائج مختلفة وهنا يبان منسوب الجدل وغرضه إزاء المنهج الفلسفي الذي اتبعه أغلب فلاسفة الأغريق الذين أوكلوا اهتماماً كبيراً للفرد وقابليته على إبداء الرأي إمعاناً لكمِّ الاستفهامات والاستفسارات التي تلاحقه ليكون التواشج الديالكتيكي التام بحسب الرؤية المتبعة لهم على أنها تفعيل دور الإنسان كونه صاحب الصدارة والقدر الثمين في هذا العالم.

 بينما نجد الجدلي الفخم والفيلسوف المثالي هيجل الذي تفرّد باشتغاله على هذا المنحى تبعاً لإبداء الفكرة ونقيضها على نحو لا يرفضه الوعي حيال الماهية التي تشكلت إزاءه، بغية التطور والارتقاء بها وقد يكون هناك استحداث، أو إضافة جرّاء تغيير نمطية اللوائح المعرفية التي دعت لها الفكرة نفسها وإبداء تشطير عليها بمقاساته علمية مانحة وجهاً فطناً له دلالته على أمل أن يكون أكثر تعافياً عما قبله وهنا يكون الفكر الجدلي الذي تبناه هيجل متحركاً لا يقبل الثوابت بل أن كل شيء في الوجود له نقيضه، حتى أن الطابع الذي سار عليه الإنسان والتعامل مع المسلّم به بوصفه حقيقة غير متناهية، أيضاً يشوبه نوع من العدم هذا في رأي هيجل، ومن هنا بدأت ماهية الصراع المتفاقم على أمل الوصول إلى المطلق الذي نسعى إلى تحقيقه، ولعلي أجد أن المطلق في هذا المشوار المعرفي الذي دعا إليه هيجل هو محور مركب ناجم عن نتيجة ثالثة لها كشوفاتها الرائية بل أن هيجل اعترض حتى على المطلق وهنا يبان أثر المدونة الغيبية التي أعطت مفاهيماً وسنناً للبشرية بغض النظر عن مدى صلاحية هذه المفاهيم، هيجل الذي اشتغل على دائرة التناقض التي تتمخض عن أن الآراء وأن كانت صحيحة فإنها تحمل بين طياتها نسبة من الخطأ لا كما يقول قانون عدم التناقض بأن الفكرة حمَّالة وجه واحد لينبثق صراع أضداد آخر ناتج عن إعادة تدوير هذه الرؤى  واستنتاج محاور جدلية أخرى وهكذا دواليك.

بطبيعة الحال نلاحظ أن الجوهر الحقيقي لاتساع رقعة هذا العالم يأتي عن طريق الجدل بمعناه الكلي، فالعلم قائم على احتكام البرهان ويقينية نتائجه وقد دحضت الكثير من المقررات العلمية التي بقيت حية لفترة طويلة وأعيدت مناقشتها فيما بعد لترد لنا بحلَّة مغايرة، كذلك بسترة الكثير من التعاليم المتوارثة إن كانت اجتماعية أو لاهوتية على أنها من ضمن الضرورات الواجب الاستعانة بها، ونجد أن الرهان الجدلي بسياقاته العامة ساعٍ إلى التقصِّي عن الحتمي وتفكيك محتواه للخروج بخلاصة تثري وجود الإنسان وتعزز إمكانيته بغضِّ النظر عن جوانب هذا الحتمي المتعددة غير أن اشتعال الرؤى وتكريس محتواها يأتي عبر النقاش المقدّر بعدة معرفية  لا عن طريق الزوبعة الفارغة التي تحرّض وتثير من دون براهين وألاّ يكون جدلاً لا محل له ولا طائل.