حسن ناظم
تردّدت نسبةُ المقولةِ المعروفة، "الرسمُ شعرٌ صامتٌ والشعرُ رسمٌ يتكلّمُ"، بين الشاعر اليوناني سيمونيدس (468 - 556 ق.م) والفيلسوفِ والمؤرّخِ اليونانيّ بلوتارخ (46 - 119 ب.م)، ويقدّمُ عنوانُ هذه المقالةِ مقولةً موازيةً: "الرسمُ موسيقى صامتةٌ والموسيقى رسمٌ يتكلّمُ"، وبهذا فهي ذاتُ نَسَبٍ بالمقولةِ الآنفةِ الذكرِ، بما أنّ موضوعَ هذه المقالةِ هو موسيقار يرسمُ، وليس شاعراً يرسمُ، إذ حانَ الحينُ لدى الموسيقار الكبير نصير شمّة (1963 - ) أن يقيمَ معرضَهُ التشكيليّ الأول بعد سنواتٍ مديدةٍ من ممارسةِ الرسمِ بلا نيّةٍ لإظهارِهِ بين الناسِ.
ثمّة ديدنٌ آخذٌ بالأفولِ على مرِّ الزمنِ، وهو تعدّدُ مواهبِ المبدعين واشتغالهم على أكثر من صُنْعَةٍ واحدةٍ. والشائعُ، منذ ستينياتِ القرنِ العشرين في الأقلّ، أن يتّخذَ المبدعُ صُنْعَةً أساسيةً يشفعُها باشتغالٍ على صُنْعَةٍ ثانيةٍ وثالثةٍ ورابعة. وعلى الأغلب، كان الشاعرُ هو الذي يتمتّعُ بخاصيةِ تعدّدِ المواهب، إذ يكونُ شاعراً أساساً، ورسّاماً ونحّاتاً وخطّاطاً وعاشقاً للموسيقى. والأمثلةُ على هذا الأمرِ عديدةٌ، منها أنّ الشاعرَ الكبيرَ أدونيس (1930 - ) رسّامٌ، وكان الشاعرُ الكبيرُ فوزي كريم (1945 - 2019) رسّاماً ومتبحّراً بفنِّ الموسيقى، والشاعرُ محمد سعيد الصكّار (1934 - 2014) كان خطّاطاً معروفاً، والشاعر فاضل العزاوي (1940 -) كان روائياً، والشاعرَ يوسف الصائغ (1933 - 2005) كان روائياً وكاتباً مسرحياً ورسّاماً، والشاعر مظفر النواب (1934-2022) كان رسّاماً، على سبيل المثال لا الحصر. لكن الرسّامَ والنحّاتَ الكبير جواد سليم (1919 - 1961) كان عازف گيتار مولعاً بهذه الآلة الموسيقية.
ما من حاجةٍ لتسويغ هذا الارتباط بين صُنعةٍ وصُنعة، لا سيّما بين الشعرِ والرسمِ، ومقولة "الرسمُ شعرٌ صامتٌ والشعرُ رسمٌ يتكلّمُ"، فجمالياتُ الشعرِ واللوحةِ تتوفرُ على عوالمَ مشتركةٍ في تشكيلِ الصورِ بالكلماتِ والألوانِ على سبيلِ المثالِ، غيرَ أنّ الانتقالَ من جمالياتِ الموسيقى إلى جمالياتِ اللوحةِ يبدو أكثرَ تعقيداً، وأقلّ طواعيةً مقارنةً بالعلاقةِ بين الشعرِ والتشكيلِ. لكنّ الموسيقارَ نصير شمّة طوّعَ بيدِهِ المِطْواعةِ - يدِ المهارةِ بأسرِها، وبأصابعِهِ الليّنةِ، أصابعِ الموسيقار الأمهرِ، وبوجدانِهِ الإنسانيّ الراسخ – طوّعَ الألوانَ لتكونَ لحناً لونيّاً منغّماً على القماشةِ العجيبةِ. ففي لوحاتِ معرضِهِ التشكيليّ الأولِ، في غاليري الاتحاد للفنّ الحديث في أبو ظبي شباط 2024، تلك اللوحات التي تأمّلتُ معه بعضَها في (بيت العود) في أبو ظبي، وهو أحدُ بيوتِ العود المنتشرة في عواصمِ البلدانِ العربية، أحدُ مآثرِ الموسيقار الحميدة، في هذه اللوحاتِ ثمّة مغامرةٌ في الانتقال من ريشةِ العزف على العودِ إلى فرشاة الرسمِ على القماشة القشيبة، قماشة الكانڤاس. إنّها مثلُ مغامرةِ الشاعرِ في انتقالِهِ من القلمِ في كتابةِ الشعرِ إلى فرشاةِ الرسمِ. وفي سياقِ هذه الموازاةِ، هذه المقابلة بين فنّيْنِ عظيميْن كالشعر والرسمِ، جاءت تلك المقولةُ: "الرسمُ شعرٌ صامتٌ والشعرُ رسمٌ يتكلّمُ". إذن، مثلما كان الشعرُ رسماً ناطقاً بالكلماتِ والرسمُ شعراً مَصوغاً بالألوانِ، أضحت الموسيقى، لدى نصير شمّة، منطلقاً لتأسيسِ علاقةٍ بينها وبين الرسمِ، وهذه العلاقة ألهمت ظهور تلك المقولة التي هي نظيرُ قولِ الفلاسفةِ الإغريق عن علاقةِ الشعرِ بالرسمِ، فمعه يجري التفكير في أنّ "الرسم موسيقى صامتةٌ والموسيقى رسمٌ يتكلّمُ". ومقابلةُ الشعرِ الذي هو رسمٌ بالكلماتِ والرسمُ الذي هو كتابةٌ بالألوانِ، تقفُ أمامَها مقابلةُ الرسمِ الذي أضحى موسيقى بالألوانِ والموسيقى التي أضحتْ رسماً بالأنغامِ. وهنا التحدّي الذي جابهَهُ نصير شمّة بأناةٍ منتظراً ثلاثين عاماً ليجرؤَ، بعد بَذْلٍ منه وتشجيعٍ من أساتذةِ فنّ الرسمِ، على تحقيقِ هذه المقابلةِ بين الموسيقى والرسمِ. ومثلما كان الشعرُ رسماً ناطقاً والرسمُ شعراً صامتاً، صارت الموسيقى لدى نصير شمّة رسماً منغّماً، والرسمُ موسيقى
صامتةً.
ويعي الفنّان نصير شمّة أبعادَ هذه المغامرةِ في كيفية تأسيسِ العلاقةِ بين الموسيقى والرسم، وفي الكلمة التي قالها في تقديمِهِ لمعرضِهِ أشارَ إلى هذه المعضلةِ، معضلةِ تحويل الموسيقى إلى عملٍ مرئيٍّ.
لن أستفيضَ في تحليلِ لوحاتِ نصير شمّة بوصفي متذوّقاً للفنِّ التشكيليّ، ولن أستلهمَ شروحاتِهِ وإيماءاتِهِ في لقاءاتنا التي نقفُ في بعضها أمامَ لوحاتِهِ،، فذلك من شأنِ أربابِ هذا الفنّ، وخُبرائِهِ وأساتذتِهِ، لكنّ المتذوّقَ فيَّ يلجأُ إلى معرفةٍ تأويليةٍ يَلْتَمِسُ فيها دلالاتِ اللوحاتِ من باطنِ التجريد، ويَتَلَمَّسُ بهجةً مستورةً خلفَ حُجُبِ خلائطِ الألوانِ، وكآبةً مُقيمةً تنزُّ من القماشةِ، فيرى هذا المتذوّقُ لوحاتِ نصير شمّة بألوانِها المختلفةِ مواقفَ تتجلّى في ألوانٍ بركانيةٍ غاضبةٍ مبقّعةٍ بحُلكةِ النجيعِ، كأنّها آثارُ مجازرَ على صخورِ الجبالِ، ودُكنةٍ من رواسبِ الحرائقِ والخرابِ المستوطنِ، كأنّها بقايا مفخّخةٍ انفجرت في بغدادَ وَمَرَسَتْ لحمَ الناسِ بدمائِهم، وصُفرةٍ كابيةٍ ذاتُ شِياتٍ كأنّها حقولُ قمحٍ يجتاحُها الجرادُ، وخُضرةٍ موشّاةٍ كأنّها عرائشُ عنبٍ خُضرٌ يُبقّعُها "إشراقُ" الشمسِ وإهراقُ الدمِ، وهي، في مخيّلتي، صدىً مرئيٌّ لمقطوعتِهِ الموسيقية المشهورة "إشراق". بالجملةِ، لا ضراوةَ في ألوانِ اللوحاتِ، ولا دَعَةَ فيها، ولا هدوءَ، ولا طمأنينةَ، ولا أيّ معنىً من معاني السّكينةِ، فهي تتلوّنُ كأنّها بركانٌ مكتومٌ، قابعٌ تحتَ حجرِ النارِ، ومَرْجٌ محروقٌ يتمعّجُ بالريحِ، ومرتقى جبلٍ أجردَ انتثرت عليه آلامُ المهاجرين والنازحين، وأرضٌ فرشَها الخريفُ بأوراقِ الأشجارِ الذابلةِ إيذاناً بالبردِ والوحشةِ والصمتِ القاتلِ، إنّها الطبيعةُ وقد ارتسمتْ عليها شناعةُ الإنسانِ، وفظاعةُ شرورِهِ، في سجالِهِ، وصراعِهِ، أو إنها الوطنُ وقد حطّمَهُ القدرُ، أو إنها اختصاراً الطبيعةُ وقد امتدّت لها يدُ الإنسانِ فعبثتْ بها، وارتدّت عليه يدُ الطبيعةِ فأنزلتْهُ منازلَ الخُسرانِ
والمأساةِ.