علي العقباني
ذات يوم أعلن نيتشه (موت الله) وجاءت البنيوية لتعلن (موت الإنسان)، ثم ظهر من يعلن (موت التاريخ) وركز موريس بلانشو على (موت الكاتب)، و(موت الأدب)، و طرح رولان بارت فكرة (موت المؤلف) في مقال نشر عام 1967 وهي تعني أن نفصل بين الكاتب والنص، وكأننا لا نعرف شيئاً عن الكاتب، ونتعامل مع النص كتراكيب لغوية ونص فقط، ويمكن اعتبار كتابي {الف ليلة وليلة}، و{رسائل إخوان الصفا} مثالا على نص مات فيه المؤلف، لأنه مجهول الهوية.
وهناك أحاديث كثيرة اليوم تعلن (موت القارئ)، وربما تطول قائمة الوفيات أو الضحايا هنا، وكل إعلان مما سبق يجد أصحابه في معطيات الحياة ما يدفعهم إلى إعلانه والدفاع عنه.. لكن كيف يواجه هذا الموت، هل تتيح الحياة والظروف فرصاً كثيرة لتلك لمواجهة، ربما أن الكاتب يكتب وليس له خيار آخر كواحد من أشكال الدفاع عن الحياة ضدَّ الموت، وسؤال الكتابة الأزلي ، لماذا نكتب، ولمن نكتب، لا يجد حضوره إلا في الآخر وهو القارئ هنا، ألا يكتب الكاتب نصه وهو يُنشأ حواراً مع هذا الآخر، ألا تبقى شخصيات وحيوات هذا النص ميتة من دون أن يقرأها قارئ حي، ويُعيد نبش الحياة لأوراق وصفحات تلك الحكاية وهذه الحياة.
وسواء كانت المناسبة معرضاً محلياً أو دولياً أو عربياً للكتاب، أو عبارة عن شجن يومي وحياتي، فإن الكل يشتكي ويُعلن تذمره واستياءه، القارئ الذي يتهم الكُتاب بأنهم لم يعودوا يكتبون أشياء مهمة ومثيرة للاهتمام ،ويدعي أن العالم في وادٍ وما يُطرح في وادٍ آخر، ناهيك عن المستوى الفني واللغوي، وبأنه لا يجد نفسه فيما يكتب وانعدام لغة الحوار وفقدان الصلة.
وفي هذه الحال فإن العلاقة بين القارئ والكاتب، القارئ والنص، بات يشوبها الكثير من اللغط و التساؤل والتشاؤم وسوء الفهم والتقدير، كذلك ما يشتكي به القارئ من غلاء تكلفة الكتاب وتحكم دور النشر، وضعف القوة الشرائية نتيجة ضعف الأجور وقلة الدخل. بالمقابل يُرجع أصحاب دور النشر المتذمرون من حال الكتاب وقلة عدد القراء إلى سيطرة وسائل الإعلام المرئية والمسموعة وطغيان عصر الصورة التلفزيونية من مسلسلات وبرامج إخبارية ومنوعات ومسابقات وانتشار سوق الانترنيت وأقراص الـ c.d روم أو ما بات يعرف بالكتاب الإلكتروني، كما ويُرجعون سبب ارتفاع سعر الكتاب مقارنة بالدخل الفردي، وخصوصاً لهؤلاء الذين تشكل القراءة هاجساً حياتياً بارتفاع ثمن الورق الذي هو مادة مستوردة وأجور المطابع، رغم إعلانهم عن تخفيضات حقيقية في أسعار الكتاب على عكس ما يدعي القراء، وأنهم في الغالب لا يربحون كثيراً من سوق المعارض التي تكلفهم كثيراً من نفقات حجز مكان وشحن وتنقلات وما إلى ذلك، وبالرغم من ذلك فإن بعض دور النشر تجني أرباحاً جيدة، ولا سيما تلك التي تهتم بنوعية معينة من الكتب، مؤكدين انتشار الكتب مثل الأبراج والمنوعات الخفيفة، وكتب الدين والتراث وبعض الأنواع العلمية ولا سيما المتعلقة بعلوم الكمبيوتر.
أما الكاتب أو المبدع فحدث ولا حرج، فهو يشتكي من الاثنين معاً، وكذلك من الوضع العام وتردي حال القراءة والرقابة وتحكم دور النشر والمكافآت القليلة التي يتلقاها نظير عمله الإبداعي.. تلك الشكوى لا تأتي من فراغ حتما، فمبيعات الكتب وتحديدا الأدبية مثل (شعر، رواية، قصة، قراءات نقدية وفكرية...) تعطي أرقاماً لا تتجاوز بضع مئات من النسخ، وهذا طبعاً عدا بعض الكتب التي تلقى رواجاً كبيراً - ربما لاسم المؤلف أو لموضوع الكتاب أو لضجة تثار حوله هنا وهناك. لقد ألغت وسائل التواصل الاجتماعي ومنصاته، أو قصرت المسافة الفاصلة أو المحتملة أو المرسومة بين المؤلف والقارئ، فأصبح الكاتب على احتكاك مباشر مع القراء وبشكل شبه يومي تقريباً، فبات الكاتب غالباً ما يقرأ تعليقاتهم ويتفاعل معها؛ وقد يفسر الكاتب نصه بنفسه، ويصحح للمتابعين بعض مفاهيمهم المغلوطة حول النص. ويقدم للقراء بعض أسرار الكتابة والشخصيات، وربما يثير بعض القراء من خلال تعليق أو رد، وهو أمر دفع بعض دور النشر إلى البحث عن الكاتب النشيط والمتفاعل على منصات التواصل، لأن هذا، وفقا لنظرتهم، يملك فرصة تنافس وتسويق وبيع أكثر من غيره. إشكالية القراءة والكتابة وما يتعلق بوضع القارئ والمبدع والعلاقة بينهما، مسألة أشبعها الكتاب والباحثون والنقاد بحثاً ودراسة وتأملاً، ومع ذلك ستبقى قائمة وملازمة للعمل الإبداعي مهما كان نوعه أو جنسه.. الكاتب يكتب في أحد تجلياتها لأن هناك آخر سيقرأ هذا المنتج الإبداعي، والقارئ ربما يبحث عن حياته وروحه، أو عن عوالم جديدة ورؤى مغايرة لمسائل بُحثت من قبل أو ليجد نفسه في أحدها، ومهما كانت الحال في هذا أو ذاك، فإن الصلة الوثيقة بين القارئ والمبدع ستبقى عصية على الإمساك بكامل عوالمها وأوجهها، الكاتب لن يموت طالما أن الحياة تفرز كل حين ما يدفع المبدع للتعبير عنه وصوغه أدبياً ،ربما يعتري الحالة الإبداعية في فترة من الفترات بعض الركود أو الجمود أو قلة الكتب المهمة ذات الرؤية الصادقة في التناول والبحث وإن كان انتشار ما بات يُعرف بالكتاب الإلكتروني وانتشار معارف الكمبيوتر والانترنيت، بات يشكل معلماً مهماً للحياة الثقافية، لكن سيبقى الكاتب وورقه وقلمه، وإن استخدم بعض التقنيات الحديثة هو الأساس، وسيبقى هناك قراء يجدون في حالة البحث عن كتاب جديد ومهم والجلوس في ركن هادئ والتمتع بتقليب صفحات هذا الكتاب متعة إنسانية حقيقية لا تضاهيها متعة ولا يحل محلها أ ي وسيط آخر، ربما أن الظروف المعيشية والحياتية قد تجبر المرء على المقارنة بين الكتاب والرغيف أو حجة الوقت الضيق أو أي شيء آخر لن تلغي الكتاب ولن توقف المبدعين عن الكتابة ولا القراء عن القراءة ولا الحياة عن إعطاء فرصة للباحثين في كيان الإنسان وروحه وجوهر وجوده، في علاقته بذاته وبالآخر، بالشغف والمتعة والحلم في الاكتشاف الجديد للحياة.