رولا حسن
فقدت منذ أيام قلائل الحركة التشكيليَّة في سوريا، أحد رواد الفن التشكيلي، والذين قدموا تجارب متفردة أضافت الكثير.
عبد القادر عزوز من مواليد حمص 1947، درس في مركز صيحي شعيب للفنون التشكيليَّة بحمص، وتخرج في قسم التصوير بكليَّة الفنون الجميلة، ثم عمل مدرساً لمادة التربية الفنيَّة في معاهد الفنون بحمص.
نشأ عزوز في إحدى حارات حمص الشعبيَّة التي أحبَّها كما لم يحب أي مكانٍ آخر، والتي تركت أثرها عميقاً في وعيه التشكيلي، أحبَّ حمصَ بحاراتها وأزقتها العتيقة وأسواقها المتنوعة، حتى أصوات بائعيها، جاب بين جنباتها، عرف أنَّ وراء الجدران قصصاً وحكاياتٍ جميلة لزمنٍ ولى ولن يعود، فترك لريشته العنان كي تكون على الورق عالماً موازياً وجميلاً، وقد قال في أحد اللقاءات عن تلك الأحياء: إنها حالة خاصة بتكوينها وتركيبها تعبر عن حالة أخلاقيَّة واجتماعيَّة وإنسانيَّة مهمَّة تختلفُ كلياً عن الأحياء المحدثة، ففيها تختفي العلاقات الحميميَّة الصادقة، تعبر تلك الأزقة والدروب عن حياة قائمة بحد ذاتها، وكم أشعر بالحنين عند عودتي من سفري إلى حمص تتسارع بي الخطى لأتجول في أسواقها وحاراتها، وكم يطربني صوت بائعيها، وتعيدني ذاكرتي إلى أيام الطفولة بين جنبات المكان، وأيام الشباب وأصدقاء الدراسة الجامعيَّة عندما نقضي نهاراً كاملاً متابعين حركة الشمس والضوء والظل، لإظهارها في لوحاتنا نتفاً من الدروب والأزقة العتيقة. تنقل الفنان الراحل بين مدارس فنيَّة عديدة، التعبيريَّة حيناً والتجريديَّة حيناً آخر، ليوصل إلى المتلقي ما يريد قوله.
ونتلمس ذلك في أعماله التي برزت فيها المتضادات كالرجل والمرأة، الخير والشر، الحب والكراهية، وغيرها من التعابير والحالات الإنسانيَّة المستوحاة من الواقع القريب المعاش، والتي وظفها بفنيَّة عاليَّة في لوحاته مقدماً تجربة جديدة وفريدة في التشكيل السوري.
تستحضر أعمال عزوز جمالَ وحميميَّة المنازل السوريَّة في مدينته حمص والعلاقات الإنسانيَّة، مستخدماً ألواناً ترابيَّة. تقدم أعماله التشخيصيَّة مجموعة من الأفراد الواقفين سويَّة، أو شخصين
متعانقين أو مشاهد سرديَّة. يؤمن عزوز أنَّ الطبيعة هي المعلمُ الأولُ، فهي مكمنٌ لا ينضب من الأفكار المختلفة التي تمكن الفنان من خلالها أنْ يستلهمَ الكثير من الموضوعات، كما يضيف: نشأت في حي شعبي يحمل الكثير من رمزيَّة المكان وعراقته لذلك أحاول مجدداً ودائماً صوغ ذلك في تجليات مكانيَّة خاصة مبرزاً جماليات محددة وفق دلالات مختلفة.
اهتمَّ عزوز بالموضوع الإنساني والطبيعة الصامتة والطبيعة الخلويَّة، ولكنْ بقي الموضوع الإنساني شاغله الأهم، فهو بحسب الكاتب فيصل خرتش "شغوفٌ بتشكيل الملامح البشريَّة بالصفات التشكيليَّة التي يعكسها من خلال التحوير والتبسيط والبحث عن صيغٍ مبتكرة تنقل العمل الفني إلى عالم الروح".
يؤكد عزوز على أشكاله الإنسانيَّة في تكوينات معماريَّة متجاذبة، ويسعى إلى تحديد معالم الشكل من خلال لمسات لونيَّة واضحة تفصح عن انفعالاته، أو من خلال خطوطٍ عريضة تقسو، وتلين، تعربد، وتهدأ لتصوغ الشكل بحيويَّة ضمن مساحات لونيَّة متباينة في شدتها وقتامتها، وهكذا يغدو الشكل الإنساني جزءاً من أرضيَّة اللوحة التي هي ترجمة لمفهوم الأرض، لكنَّ هذا الشكل لا يفصح عن كلِّ ملامحه دفعة واحدة، بل يستتر خلف الألوان، واللمسات الرشيقة ليتحول إلى كائنٍ إنساني، والإنسان عنده يميلُ نحوَ الاستطالة والنحافة، وكثيراً ما تعترضُ يده صدره، كما في التماثيل القديمة. تبدو لوحة عزوز عبارة عن تفاعلٍ حيٍ بين التشخيص والتجريب، وهي تآلفٌ متناسقٌ بين خطوط اللوحة، المساحة، والمدلول الذي تؤديه هذه الأدوات، تارة ترى التشخيص يغرق راضياً في غرور الألوان، وعربدتها والخطوط والمساحة، وتارة أخرى يظهر في أزواج تلتقي في استرخاء.
هذا التفاعل بين التشكيل والمدلول، يتآلف بشكلٍ جميلٍ يبلورُ لوحة الفنان ويجعل منها متعة بصريَّة تبقى في الذاكرة.
أتيحت للفنان الراحل زيارة عددٍ من الدول الأوروبيَّة، والتعرف على متاحفها، وبذلك استطاع أنْ يطَّلعَ على الفن الحديث والقديم أيضاً، الأمر الذي شكل عنده زاداً غنياً في تجربته التصويريَّة.
شاركت أعمال الراحل في معارض بسوريا وخارجها كالسويد والجزائر ولبنان والأردن والإمارات، وهي مقتناة من قبل المتحف الوطني في دمشق، ووزارة الثقافة السوريَّة، والقصر الجمهوري في سوريا، ووزارة الثقافة الأردنيَّة، وكذلك ضمن مجموعات خاصة في العالم العربي وأوروبا.