د. جبار خماط حسن
انطلقت الدورة الأولى لمهرجان الرياض للمسرح، الذي أقامته هيئة المسرح والفنون الأدائية برئاسة سلطان البازعي، وضم عروضاً محلية من مدن المملكة العربية السعودية، بوجود لجنة تحكيم عربية ضمت (نضال الأشقر، وغسان مسعود، ود. فهد المدن، ود. مدحت الكاشف، والكاتب صالح زمنان) ولجنة نقدية أخرى ضمت نقادا أكفاء، من الدولة العربية والسعودية .
ما أثار انتباه الضيوف العرب، التنظيم الدقيق وانسيابية فقرات المهرجان الفكرية والفنية من دون إجهاد أو تعقيد، قدم المهرجان عروضا مميزة، حيث عرض الافتتاح الذي كان مبهرا، وكانت لرئاسة المهرجان متمثلة بالفنان عبد الاله السناني وفريقه التنظيمي الدور الفاعل في نجاح وتميز هذا المهرجان، الذي كان على مرحلتين، الأولى تمثلت بالتصفيات التي تابعتها لجنة الفرز والمشاهدة ضمت (د. سامي الجمعان، الاستاذ أحمد السروري، ود. عبد الله العابر، والاستاذ صبحي يوسف، ود. ملحة عبد الله) تجولت في مدن المملكة العربية السعودية وشاهدت عشرات العروض المسرحية، ترشح منها عشرة عروض، دخلت المسابقة التي اقيمت في الرياض، كانت العروض على مستويات من الجودة الفنية، وأعطت تصوراً لدى المتابعين في أن المسرح في السعودية، على تطور ملحوظ، نصياً وفنياً من حيث الإخراج والتمثيل والتقنيات . في حفل الختام، اختارت لجنة التحكيم مسرحية (بحر) كأفضل عرض مسرحي متكامل في المهرجان، وحتماً ستكون القراءة النقدية لهذا العرض، في مستويات التميز الذي ظهر فيها، أكسبته تفاعلا ملحوظا من الجمهور. تدور أحداث المسرحية في البحر، جاذبيته البصرية وسريته العميقة مع امتداد أفقه البعيد، للصباحات الناعسة مع البحارة، يبدؤون فجرهم بين أمواجه المتلاطمة بحثاً عن اللؤلؤ، البحارة يشدون الأشرعة، بصدورهم السمراء، كحلاتها الشمس بأشعتها الدافئة، هكذا يغني النهام (صياد يمتلك صوتا شجيا) مع ايقاع الضرب على الدفوف، لشد العزم نحو منطقة اللؤلؤ التي تنتظرهم يوميا، لتبدأ مباراة الفوز ما بين الصيادين ولؤلؤ البحر .
تبدأ ثقافة الجسد من طقوس البحر بإيقاع جماعي يحقق فرضية الانتماء للمكان، هكذا المشهدية متحركة بإيقاع الأصوات وأغاني (ااااااااا)، في بيئة نقلت الجمهور إلى واقع جاذب، إذ الصيادون و”النواخذة” وعوالم الغوص بحثاً عن اللؤلؤ، من خلال الزي والدفوف، نتلمس أطر الحكاية، “النوخذة” يدعو الصيادين الى مزيد من البضائع، لنسأل البحر، يعرف من فيه، دليل التائه، نسق تعبيري من خلال اسم الشخصية (بحر) وحواره مع نوره .
تميز النص على (بحر) بالشاعرية، مشاعر العشق بين مد وجزر، رفض وقبول، يندفع بحاره نحو (نورا) التي تقابله بالرفض. يقابلها (بحر) بأن صوته يدور المركب الذي لا يتقدم إلا على صوته النهام، توقيتات صوته بين ثنايا العرض أعطت فاعلية ايقاعية لها تأثيرها على الجمهور. اتسمت الصورة المشهدية التي صممها السينوغراف فيصل العبيد في مسرحية (بحر) بالثبات، مع حركية مساقط الضوء من الأعلى والجوانب، الأمر الذي حقق تواصلية مؤثرة لدى الجمهور. مع هيمنة الطبل في الأعلى، وكأنه يمثل ادارة ضابطة فنية للإيقاع، الذي اتسم بالأفقية تارة، وعمودية في مشهدية الأداء بين الممثلين. تواصل الجمهور مع حكاية العرض، وللحكاية توترها، من يقود سردها نحو الحل، هو النهام، بصوته الذي زاد من فاعلية البحارة والغوص نحو اللؤلؤ، الذي يتطلب العمل مع النوخذة (صگر) ترك النوخذة (ابو فرج) الأمر الذي يضع (بحر) في صراع داخلي، بين عاطفته وعشقه (نورا) وبين واجب الاخلاص للنوخذة (ابو فرج) الذي أكرمه ووضعه في اهتمام خاص يحسده عليه جميع البحارة! هكذا تسير الحكاية بين أمواج البحر، بانتظار قرار ( بحر) أن يترك عمله مع (ابو فرج) أو يترك معشوقته (نورا). هكذا يمثل النهام (بحر) مركز توليد الحدث، وتصاعده، بين الموافقة والرفض، تتصاعد الأحداث على ايقاع الطبل، الذي اتسم بضبط وحداث الايقاع السمعي والحركي. يبدأ التوتر الدرامي من رفض طلبه بالزواج من نورا والسبب أنها بنت نوخذة. أعطى لنا دلالة التنافس الاقتصادي والهيمنة. على البحر وتجارة اللؤلؤ.
صراع الحرية والعبودية جعلت ارادة (بحر) متمردة وصولاً إلى نيل مطلبه الأساس، وهو الزواج بحبيبته (نورا) مع وجود معوقات مادية وفكرية وزمنية تمثلت بالنوخذة (ابو فرج) الذي اربك الايقاع في الربع الأخير من العرض المسرحي، حين أشرك -على نحو مفاجئ- ماضي النوخذة (صگر) مع المرأة التي تتبين أنها أنجبت منه ولدا (بحر) بطريقة غير شرعية، الأمر الذي جعل الأحداث تسير على نحو خال من الاقناع، إذ الاستطالة في الربع الاخير، مما يدعو المخرج إلى الاتيان بحلول إخراجية أكثر إقناعاً. اتسم العرض بنص مكتوب بمهارة وإخراج متقن في متوالية درامية ذكية، بين الفعل وردة الفعل بين الشخصيات، بحساب زمني دقيق أعطى للعرض فاعلية جمالية، لها التأثير المميز على الجمهور. أعد النص وأخرجه الفنان سلطان النوه، وساعده في الاخراج نوح الجمعان. تظهر إشارة في (فولدر العرض) أن المسرحية مستوحاة عن نص (النهام بحر) للكاتب المسرحي السعودي عبد الرحمن المريخي، الذي يعد أحد أهم الرواد في المسرح السعودي .
الممثلون كان لهم حضور أدائي فاعل، انعكس -ايجابا- على تفاعل الجمهور مع الممثلين، لا سيما (بحر) الذي ظهر متقناً لأدوات التعبير الصوتي والحركي، وكان للممثل ميثم الرزق حضور ادائي لافت، في ادارته الذكية للصوت والجسد، قي تعبير ادائي، رافقه استرخاء تفاعل مع الجمهور، ولا نقلل من قدرات الممثلين الآخرين الذين ظهروا على نحو من الأداء المتقن . بين صوت العود والطبل، حققت مساحات الصمت، لحظات ادائية لها تحققها المؤثر في تواصل الجمهور بخصوصية ثقافية محلية اكسبت العرض المسرحي ثراء سمعيا وحركيا ملحوظا، وهو يمثل قصدية ابداعية لمعالجة ناضجة التعبير ومديات التواصل الداخلي بين الممثلين والصورة المشهدية أو ما يمكن أن نصفه بالبيئة المسرحية التي صممها فيصل العبيد بجاذبية تشكيلية لاءمت الابعاد التعبيرية والادائية التي اظهرها اخراجاً سلطان النوه، وساعده في الاخراج نوح الجمعان وفريقهم المتناغم، الذين أبحروا بنا نحو البحر، نحو الهدوء والسكينة، نحو الافق الواسع، نحو الامواج الهادئة تارة والمتلاطمة تارة أخرى، نحو الفرح والغضب، نحو اكتشاف السر والمجهول، نحو الذاهب المفقود والقادم المولود، نحو بحر الحكاية السابقة واللاحقة، حكاية البدايات واللانهائيات.