د. يحيى حسين
مر الفكر البشريّ بمراحل ثلاث، الأولى: الفكر الكلاسيكي (أو التقليدي)، مرورًا بالعصر الوسيط ، ثم عصر الحداثة (الأنوار)، واليوم نحن نقطع شوطا بعصر ما بعد الحداثة، (ويذهب قلة من المفكرين إلى إننا في عصر ما بعد الحداثة).
ويطلق «هابرماس» على هذا العصر بأنه مرحلة متقدمة للحداثة.
بينما يصفه «آلان تورين» (بأنه حداثة متأخرة)، ويصفه «باومان» (بالحداثة السائلة).
في سلسلة من مؤلفاته البارزة. والمائز بين هذه العصور هو «العقل» في استخدامه وجعله المعيار النظري في حل الاشكاليات المعرفيّة والفلسفيّة والثقافيّة.
و»ثقافة ما بعد الحداثة» مصطلح يُستخدم لوصف مدة زمنية ونمط فكري يتبع الحداثة، ويُعدُّ تحولاً عنها. وتأتي هذه الحقبة بعد الحداثة، وتمتد على مدى العقود الأخيرة من القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين، وهي تتميز بمجموعة من السّمات والمفاهيم التي تختلف عن تلك التي كانت سائدة في عصر الحداثة. فهي من جهة مرحلة تاريخية، ومن جهة أخرى اتجاهًا نقديًا للحداثة بعد تغوّل الرأسمالية وسيطرة الفكر الغربي بشكل مركزي.
وترجع جذور هذه الثقافة إلى أعمال فلاسفة كبار من أمثال ( نيتشه، وهايدجر، ودريدا، ورورتي، وليوتار)، والأخير ألف كتابًا منفصلًا بعنوان (معنى ما بعد الحداثة، نصوص في الفلسفة والفن)، وعرّف «ليوتار» مرحلة ما بعد الحداثة بأنها (الحالة التي تعرفها الثقافة بعد التحولات التي شهدتها قواعد ألعاب اللغة الخاصة بالعلم والأدب والفنون منذ نهاية القرن التاسع عشر (ليوتار: 7).
والتي حدد هدفها الرئيس بنهايات السرديات الكبرى، والفكر الشمولي، وعدم اليقين، وتطور التقنية وتعدد وتطور الآلات المعلوماتية.
ويعد المفكر العربي «ايهاب حسن» من أبرز من نظَّر لهذه الثقافة أو المرحلة واصفًا ايّاها بأكثر من عشر صفات (أولها: رفض فكرة الشموليَّة، وآخرها: التهرب الدائم عن طريق الفكاهة والهزل ورفض روح الجد، وفي تجذير الوعي الذاتي).
وقد أضاف السيد «كمال الحيدري» في محاضرات بهذا الإتجاه إلى مؤسسي هذا العصر فلاسفة من أمثال (هيوم، وكانت، وماركس، وفرويد، وفوكو)، وقد حدد سمات هذا العصر بخصائص، منها: لا يملك أحد الحقيقة المطلقة. ولا ينبغي أن نسعى إلى توحيد المختلف. ولابد أن تُعطى المشروعيّة بكل بحسبه. وليست المعرفة الحقيقيّة مختصة بالعلماء. ولا يوجد منهج واحد.
والابتعاد قدر الإمكان عن المبادئ الكلية.
وتمثل «ثقافة ما بعد الحداثة» تحولًا مهمًا في التفكير الفلسفي والثقافي والاجتماعي.
ومن بين السمات البارزة لهذه الحقبة: الشك في السرديات الكبرى، إذ يُشكك في الروايات الكبرى التي كانت مهمة في عصر الحداثة، مثل القصص الوطنية والدينية، وترى أن الحقائق والتفسيرات غير ثابتة وقابلة للتغيير والتأويل. والسمة الثانية هي: التنوع والتعددية: إذ تشجع ثقافة ما بعد الحداثة على التنوع والتعددية في المفاهيم والممارسات والثقافات، وتُؤكد على أهمية احترام وتقدير هذا التنوع. والسمة الثالثة: هي الاستخدام الواسع للوسائط الجديدة: فتستخدم ثقافة ما بعد الحداثة وسائط جديدة مثل الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والفنون الرقمية لتعزيز التفاعل والتواصل وتجربة الثقافة.
والسمة الرابعة : الاستهلالية والتحليل النقدي: إذ يتميز النقد في ثقافة ما بعد الحداثة بالاستهلالية والتحليل النقدي للسلطة والهويات والمفاهيم الثقافية.
والسمة الخامسة: انعدام الاستقرار وعدم اليقين: فتتناول ثقافة ما بعد الحداثة التحديات المعاصرة مثل العولمة والتكنولوجيا والهجرة، وتعكس انعدام الاستقرار وعدم اليقين في الحياة المعاصرة.
وتتنوع الدراسات حول ثقافة ما بعد الحداثة بين المجالات المختلفة مثل الفلسفة والأدب والفنون وعلوم الاجتماع والأنثروبولوجيا، وتوفر رؤى متعددة حول كيفية فهم هذه المدة المعقدة وتأثيرها في المجتمعات المعاصرة.