سيمياء الأثر الحسي عند زياد جسّام

ثقافة 2024/02/20
...

 خضير الزيدي


لم يكن زياد جسام بمأمن من تأثير الفن العراقي على شخصيته وروحيته، بل بدت مؤثرات الجيل السابق وخاصة الثمانيين ممن سبقوه واهتموا بالأثر والتعبيريّة أكثر وضوحا على تجربته الفنية، ولكن الملفت في شخصية هذا الفنان إنه لم يتسابق كغيره على قاعات العرض، بل كانت سمة التأني والهدوء والتأمل واضحة على من يعيش معه، ويتعرف على فنه عن كثب. قاد ذلك الهدوء والتأمل إلى إيجاد اسلوب خاص به ابتكره لنفسه، متأثرا بأجواء الطبيعة الإنسانية المليئة بالصدقة. ومن هنا قادته خطاه إلى أن يعمق الأثر الحسي في منظومة أعماله، فما أن ترى لوحة معمقة بأجواء حسية حتى تثيرك الاستعراضات التشخيصيّة فوق السطح التصويريّ، وهي تمثلات إنسانيّة قبل أن تدعي تدفقها الحسي، ومن دون غواية سابقة ابتكر خصائص خطابه الشّكلي، وقدم تراكيب ابتعدت عن الزخرفة والتماشي مع الغريزي، بل صاغ أشكالا توجه لنا نضجها الفني وانسجامها في طريقة تجعل مظاهر التزاوج بين الحسي والإنساني مستوى من التحويل اللازم للتمتع بالفن. اتسعت خطوات هذا الفنان ضمن اتجاه دلالي يصيغ الشكل في تعاظم ايقاعي يعي وجهته ومولداته الدلالية، ولأن الوجوه المنغمسة في قبلة مشتركة مدارها الصدق، والمتخيل البارز في الإثارة فأن لإثارة الموجة تغدو شعورا يوثق قيمة الإنسان ومدارك الحلم وطبيعة النفس. وهذه المسوغات في الفن لها قيمها عند المقتربين من التحليل الفني لأن الاشارة التي تتداخل مع البنى المركبة في العمل غالبا ما تصنع لنفسها أسطورة عالم خاص تتقلب فيه الخلاصة البصريّة والضرورة الرمزيّة ولا شيء يجلب للنسيج الشكلي قيمته لولا هذه المؤثرات. فما الذي طرأ على لوحات جسام من جديد لنذكره هنا؟ 

في لوحات هذا الفنان ثمة قدرة تستخرج غناها الشكلي في استرخاء صوري ينمي فهم الغريزة من خلال ترف (القبلة) وإذا أردنا أن نتذكر ما يؤكده موكارفسكي من مقولته الشهيرة (لكل فن من الفنون إشارة جمالية.. ثم أن كل فن له إشارة ثانية هي ايصالية) الإشارة التي تهمنا لم تكن منغلقة، ولا وظيفة لها في رسماته، بل هناك حضور للحس المفعم بالتصويرية والقدرة البنائية وهناك ايعاز تكويني تعكسه المخيلة على قماشة اللوحة الوظيفة المهمة لانساق إشارته. 

إنها تطرح له متعة المخيلة والحس والتوازن النفسي، وهذا التمثيل الخطي الذي يسير بتأن له اهتزازات جوانية باطنية من مهمة الإشارة إظهار قدرته، ومن مهمة الفنان أن تتماشى 

كل تلك الشفرات في سياق ونطاق موحد. 

إن اكتشافات الجسد الأدمي، وتعاظم طاقته في الرسومات التي نشاهدها عند زياد يصعب تجاهلها، لأن معيارية الشكل فيها تمنح المتلقي القدرة على متابعة النسق الايروسي الذي يتحول في نهاية مألوفة إلى شفرات متنوعة تتخذ طابعين، الأول شبقي يسير مع كتلة الايقاع النفسي الحاد، والآخر تصويري يجذبنا لنظارته الشكليّة والتركيبة، وبين الاثنين ثمة مغذيات باطنية بحتة تتزاوج فيها البساطة مع الرغبة. وهنا مهمة الفنان كيف يظهر قدرته وحساسيته أزاء هذا التعبير الفني. 

لهذا أجد أنّ البواعث النفسيّة وجذابة معماريتها علاوة على المد الايقاعي الحاد، ثمة ما يخلخلهما في قبضة السطح التصويري. لقد كانت مظاهر التعبيرية عند زياد مشبعة بالانساق النفسّية، ولا أجد ما يمكن أن يكون غريبا في الأمر طالما الحسية تنهض في طابع جمالي وليس افتراضي، وعلى الأغلب تكون الأشكال خالية من نظام هندسي ليتجلى فيه الغموض وعناصر مبتعدة عن تعبيريّة الإنسان. هناك موجة من التشخيصية سادت مع بعض الأسماء لها غاية تحمل أوجها متعددة، ولكن مع ما نشاهده ونتابعه من رسوم هذا الفنان نكتشف أن التحويل الشّكلي له ضرورة والمدلول عنده كينونة حاضرة تخبرنا عنها واسطة الشعور المتكرر. 

المهم ثمة لوحة تعطي محمولاتها على أساس التشبع البصريّ وليست المفارقة، بمعنى أن رسالتها منشط لإحساسنا والشفرات التي تحملها اللوحة والحركة المعدة لتوليد الشكل لها القدرة في استنطاق الأنساق المتماثلة بصورة تتبع نظام الوظيفة الجمالية. وأقصد هنا وظيفة الفن، وليس النظام الأسلوبي. وهذا ما جعل تماهي الحركة التشخيصيّة وتركيبها الجسدي يبقيان لحظة التأمل قائمة في نفسيّة المتلقي. هناك أيضا نجد العلامة الدالة على ظواهر هويته الأسلوبية، وثمة رهان داخلي يبديه هذا الفنان من أجل إعلاء مدار الخيال أمام الحقيقة. وبما أن حركة الشخوص تتطلع للغريزة الآدمية فإن موازاة الحكاية في النص الصوري داخل منظومة اللوحة، تمثل بواعث تراث شفاهي ومحفورات ايروسية نفسية حادة، والتطابق بين الاثنين مرهون بقيمة النسق التصويري الأخير الذي تبديه ضراوة المدلول التعبيري.