ما تفعله غزة بشاعر

ثقافة 2024/02/21
...

أحمد عبد الحسين

منذ بدء العدوان على غزة يلازمني شعور بالذنب. إحساس متعاظم بالتقصير عن فعل شيء إزاء هذه الجريمة التي يتفرج عليها الناس كما لو أنها فيلم سينمائي. أعرف أن هذا الشعور لا يمتّ للمنطق بصلة، وأني لا أملك إلا الكتابة، وباللغة العربية أي أنها موجهة من عاجز إلى عاجزين مثلي. لكن المنطق في هذه المجزرة فرصته محدودة. يلازمني شعور منذ بدء المذبحة أني ما دمتُ أتنفس وأرى وأسمع فأنا مذنب بطريقة أو بأخرى. المفارقة هنا أني بدات أفهم شعور المثقفين اليهود الذين شهدوا المحرقة. لقد افهمونا مشاعرهم الآن بطريقة مأساوية.
أستطيع تقسيم أثر هذه الأحداث عليّ إلى ثلاثة مستويات، تتناوب في ما بينها على رسم حياتي. المستوى الأول: الحماس الذي أتابع به أخبار خسائر العدو وبطولة المقاومين، وهذا أملى عليّ كتابة مقالات وأعمدة متفائلة في الصحيفة التي أعمل بها، وجعلني أتابع كل الأخبار التي تتعلق بغزة. المستوى الثاني: التحليلي، وهو ما جعلني أتابع دراسات ومقالات رأي عالمية، وبعضها ذو جانب عسكري استراتيجي، الأمر الذي جعلني أدخل في نقاشات مع زملاء وأصدقاء. أما المستوى الثالث: فهو اليأس من قدرة “ورغبة” العالم على مواجهة هذا التوحش الصهيونيّ. وهذا المستوى يظهر في كتاباتي التي تشبه المراثي، بل تشبه “المناحات” السومرية.
أعرف أن الكتابة لا تنقذ شعباً على شفير الإبادة. هذه القوة الشيطانية لا تجابه إلا بقوة عسكرية أو بقوة سياسية تستطيع تهديد مصالح إسرائيل والغرب الذي يسندها. لكنْ كلّ شيء أهون من الصمت. إذا كنت مذبوحاً فعلى الأقل أريد لطريقة ذبحي أن تكون صاخبة. ليكنْ هناك فرق بيني وبين خروف مذبوح! أكتب كل يوم تقريباً عن هذه المجزرة. يرعبني أن كثيرين تآلفوا معها وباتوا يرون الأمر تلقائياً و”طبيعيا”. وأنا من أجل أن أنقذ نفسي من هذا الكابوس أكتب. من اجل أن لا تكون إبادة شعب شبيهة بحدث طبيعيّ حدث ولا نستطيع إلقاء اللوم فيه على أحد، كما لو أنه هزة أرضية مثلاً. أكتب لأقول لنفسي إن هذه جريمة وأن هؤلاء مجرمون.
لا أحب إلا أن أكون كاتباً لكني فعلاً تمنيت لو أني أتحدث وأكتب بالعبرية، لأخاطب اليهود الذين يحتلون أرض فلسطين. وفي رغباتي الأسطورية الطفولية أحببت أن يكون لديّ الاسم الأعظم لأقلب عاليها سافلها وأقرّب يوم القيامة!
لا أنتظر شيئاً من العالم. كنت أعرف “والآن أنا متيقّن” أن الشيطان يحكم هذا العالم ويسيّره على هواه. ولهذا لا أمل بالخلاص. أرعبني مثلاً في هذه المعمعة أنّ مدوّنات التحديث ومقررات الحقوق العالمية وخطابات الإنسانية ديستْ بالقنادر من قبل مفكرين وفلاسفة كبار كهابرماز وجيجك كنا نشهر أسماءهم كتمائم ضدّ الارتكاس الديني في بلداننا. وها هم اليوم متدينون صهاينة يشحذون سيوف القتلة بالفلسفة والحداثة وما بعدها. هذا بالنسبة لي مرعب ويجعلني لا أنتظر شيئاً من العالم. إذا أتى خلاص ما فسيكون غيبياً كظهور المسيح أو المهديّ، وقد تأخرا فعلاً . إذا أتيا اليوم فهما متأخران. لكن عليهما أن يأتيا مع ذلك.
أخيراً
في طفولتي كنت أشاهد الجزار وهو يذبح الخراف. وكنت أرى للخروف المعدّ للذبح يذهب ليتشمم دم أخيه المذبوح تواً ببراءة تامة، وهو يلوك لقمة الحشيش في فمه. أقول لنفسي ولكل عربيّ: لا تتشمم دم أخيك ولا تعلك الحشيش في فمك، ولا تستسلم للذبح. قاوم ولو بالجعير!