فن الجوند الهندي الطبيعة بألوانٍ مشرقة

ثقافة 2024/02/21
...

ترجمة: مظفر لامي

يعتبر فن الرسم الهندي الجوند نمطاً من الفنون التشكيلية القبلية الجذابة والحيوية التي تكرم التراث الثقافي لقبيلة جوند    Gond الهندية من خلال الاحتفاء بعجائب الطبيعة. و لعدة قرون، انتقل هذا الفن التقليدي من جيل لآخر بين السكان الأصليين لهذه القبيلة ليعكس تقاليدهم الفنية العميقة الجذور. وقبل الخوض في سمات هذا النمط الفني لابد من التعريف بحاضنته التي تعد من أكبر وأقدم قبائل الهند التي عرفت بتاريخها الغني وثقافتها الفريدة، وشهرتها العريضة التي اكتسبتها بفضل حرفها الفنية والتصنيعية التي تطورت على مر قرون.

وتشير الأبحاث التاريخية إلى أن قبيلة الجوند ابتكرت هذا النمط في الرسم منذ 1500 عام على الأقل، نظراً لوجود رسومات تحت الأرض تعود إلى العصر الحجري الحديث، في المناطق التي تسكنها، ومن المرجح أن أجدادهم واصلوا هذه الممارسة التي توارثوها منذ عهود سابقة. ومن العادات ذات العلاقة بهذا الفن، نجد اعتقاداً راسخاً عند أفراد القبيلة بارتباط الرزق والحظ الجيد برؤية لوحة مباركة، وهذا الاعتقاد أشاع بينهم تزيين جدران وأرضيات بيوتهم برسومات وعلامات من ثقافتهم المحلية.
يتميز فن الجوند بأنماطه المتداخلة وألوانه النابضة بالحياة، وهو شكل من أشكال الفن القبلي التقليدي الذي يمارسه الرسامون الهنود المهرة، مستخدمين أصباغاً طبيعية وخطوطاً دقيقة تصور حكايات بصرية مذهلة. وهم يسخّرون العديد من الموارد الطبيعية في لوحاتهم مثل عصارة النباتات والفحم وروث البقر التي تستخدم في الرسم على الجدران والأرضيات وأسطح عديدة غيرها. وأعمالهم الفنية تستحضر من خلال هذه الأساليب المتوارثة، أجواء الحياة الفطرية في الطبيعة والريف. وتستمد إلهامها من النباتات والحيوانات المحلية والمشاهد الطبيعية التي تُجسد في لوحاتهم بتصاميم وزخارف رمزية معقدة تعكس تقاليدهم الثقافية.
لفن الجوند فكرة مركزية تتمثل في ( شجرة الحياة )، إذ يظهر هذا الشكل مراراً وتكراراً ليصور الترابط بين جميع الكائنات الحية، وهو يتخذ رمزاً لانسجام الطبيعة وتوازنها التي تشكل الموضوعة الرئيسة في هذا الفن. ونحن نلمس هذا الاهتمام في الأشكال والنقوش المعقدة التي يبتكرها الرسامون ليجسدوا مختلف عناصر الطبيعة.
يشتهر فن الجوند بالاستخدام المذهل للألوان، ولوحاته تعبر عن الحماسة والسعادة من خلال ألوان أساسية حيوية تنبض بالحياة. كذلك يستخدم الفنانون أشكالاً وزخارف هندسية؛ لإضفاء الحركة والحيوية في اللوحات التي تبدو مثل عروض ساحرة يتجسد فيها الإبداع والخيال. ومن بينهم يبرز الفنان دافات سينغ الذي تكشف محاولاته في الاستكشاف والتجريب عن رغبة في تجاوز الأطر التقليدية لهذا الفن، رغم أن أعماله تتضمن جوانب من التقاليد الفنية لشعب الجوند. فنراه يصور بخبرة الحكايات الشعبية التي سمعها في طفولته، ويدمج الأساليب التقليدية، العقائد، الرموز الأيقونية مع العناصر الفنية الحديثة والثقافة البصرية. وهو يتلاعب كذلك بأحجام وألوان وأشكال عناصره لينتج لوحات وتخطيطات مدهشة. يقدم دافات سنغ نفسه كفنان معاصر، يستخدم الأساليب التقليدية، مع انفتاحه الدائم على التجارب والأفكار الجديدة. وفي لوحاته نجد اهتماماً ملحوظاً بأساطير قبيلته وحكاياتها المتوارثة عن المخلوقات التي تعيش في الغابات.
يرى رسامو الجوند مثل دافات سينغ وغيره أن لإبداعاتهم فوائد علاجية وروحية. وهو أمر راجع لتوظيف هذه القبائل للفن كوسيلة للتواصل مع الطبيعة، وطلب المباركة من الآلهة. وهذا النمط الفني ما هو إلا ممارسة تعود بالصلة للطقوس والمهرجانات التي كانت تعقد عليها الآمال في جلب الثروة والوفرة. والملاحظ أن فن الجوند قد اكتسب مؤخراً اعترافاً، وشعبية واسعة النطاق في صناعة الفن العالمية، مما أتاح الفرصة للعديد من الرسامين الهنود المهرة، لعرض أعمالهم الفنية المميزة في صالات العرض، على الصعيدين المحلي والعالمي. بالإضافة لإدخال أعمالهم الفنية في المنسوجات والملابس والتصاميم الداخلية، الأمر الذي ضاعف من نسبة الإشادة والتقدير التي تقابل بها مواهبهم وبراعتهم الفنية.
لابد من الإشارة أيضاً لدور الاعتراف والتقدير الذي قوبل به فن قبيلة الجوند في ديمومة تاريخها الثقافي الراسخ، وهو أمر لم يقتصر على دعم الفنانين فحسب، بل ساعد أيضاً في الحفاظ على أساطير هذه القبيلة وتقاليدها، وعزز الشعور بالفخر والهوية بين أفرادها. بالإضافة لذلك، ساعد هذا النمط الفني في تبديد الأحكام المسبقة والمفاهيم الخاطئة في ما يتعلق بالثقافات القبلية الهندية. ومثلما تمكن الفنانون في الماضي من دعم أنفسهم بهذه الممارسة الفنية، نجد أن الترويج لفن الجوند والتعريف بماضي الهند وتراثها المتنوع، يساعد في زمننا الحاضر، في بناء مجتمع أكثر شمولاً وتنوعاً، ويعيد تذكيرنا بأهمية وجمال علاقتنا بالبيئة، وضرورة الحفاظ على التراث الثقافي للشعوب.