اتجاهات الإخراج والقراءة السينوغرافيَّة في المسرح المعاصر

ثقافة 2024/02/22
...

  أزهر وصي 

قدم الكاتب والناقد عصام ابو القاسم رؤيته النقدية من خلال مطبوع جمع فيه دراسات قدمت في وقائع الملتقى الفكري لأيام الشارقة، وركزت موضوعياً على مفهوم الاخراج والسينوغرافيا في المسرح المعاصر، حدود العلاقة وتحدياتها.

ومن العنوان نفهم أن هناك نزالا جماليا بدأ ولم يحسم بعد، على اعتبار أن العنونة اتخذت مفهومي التحدي والحدود، وهما متغيران في محاولة لشرعنة هيمنة أحد المفهومين (الإخراج أو السينوغرافيا) واعلائه على وفق تنظيرات احتشد بمتونها كم هائل من المصطلحات التي لم تزل قيد التنظير من دون الممارسة الميدانية إلا ما ندر في بعض تجارب المسرح المعاصر.

يستند عصام ابو القاسم في مقدمته على مفهوم «گوردن كريج» للمخرج المثالي الملم بصياغة منظومة العرض المسرحي المخرج ذي المعرفة الشاملة في تصميم المناظر والاضاءة والحركة وتدوين الموسيقى واصفا إياه بالمخرج المبدع.

ويعلل هذا المفهوم على أنه املاً أراد به (كريج) أن يلوي عنق أي تداخل لعنوان آخر سواء كان سينوغراف أو غيره في لعبة العرض المسرحي.

فوسط تساؤل جدلي ارتكزت عليه الدراسات المقدمة داخل هذا المطبوع هو (المخرج تطور في الاتجاه الذي كان يطمح اليه كريج؟ أم المجال على وشك أن يجترح مصطلحاً جديداً لمدير العرض المسرحي؟)

معتمداً بجدليته على أنفار اطلقوا رؤيتهم المستقبلية في استحواذ السينوغراف على المخرج تحت عنوان المخرج الخفي أو المخرج الموازي أو المخرج الثاني.

في أولى ورقات الملتقى تقدمت الدكتورة عايدة علام، بدراستها في بداية الكتاب، بمدخل منهجي وتاريخي لفن الإخراج والسينوغرافيا، مرجحة بذلك التاريخ على المنهج في ظهور مهنتي الاخراج والسينوغرافيا على عكس ما تقوله الدراسات الدارجة في أن ظهور الإخراج والسينوغرافيا ظهرت عند الدوق ساكس منيغن عام 1874.

تاريخياً إن وظيفة الاخراج والسينوغرافيا قد نشأتا مع نشأة المسرح نفسه، فمنذ عبر المسرح الأزمنة الفرعونية والاغريقية القديمة من ضفتي الحكي المسرود على لسان الكاهن، أو الحكاء المتجول إلى ضفة العرض المسرحي المجسد لبعض تفاصيل النص الاسطوري أو النص المكتوب بالمجمل. فهناك حاجة ملحة إلى مهنة تنقل الكلمات من النص المكتوب إلى ألسن المجسدين/ الممثلين فوق منصة العرض، ومنهم إلى الجمهور المتلقي خارج المعبد، أو الجالس على مدرجات المسرح المشيد، وكذلك الحال في الاحتياج لمن يعد، ويرتب عناصر الديكور والملابس في المنصة القابعة خلف منصة التمثيل.. 

وتشير إلى أصل مفردة سينوغرافيا التي جاء منها المصطلح وهي كلمتين (بروسكينيون وأسكين) الأولى تعني فضاء والثانية معنية بالمنظر أو المشهد. 

فبعد دخول الوافدين من عالم الفنون التشكيلية والفنون التوضيحية كـ «كولدن كريج، وادولف ابيا» ومن ثم دالي وبيكاسو، اتسعت رقعة السينوغراف، سيما وأنها فشلت عند البعض الذي لم يتقن تأسيس فضاء العرض وفقا لرؤية المخرج وحدث ذلك مع كولدن كريج عندما حاول التعاون مع ستان سلافسكي في مسرحية هاملت. 

تتطلب الأمر لوجود سينوغراف بعد ظهور التعبيرية والدادئية والسيريالية والعبثية، هنا كان لزاماً ان يظهر فضاء العرض ومتدلياته بتشكيل بصري يعكس اضطراب وقلق شخصيات العرض، والتركيز من خلال السينوغرافيا على تجسيد المشاعر الداخلية للشخصية التي تعاني من تشوهات ذهنية، فلا يمكن أن يكون العالم حولها مستقيماً ومستوياً. 

وأهم الاشكاليات التي ظهرت بدراسة الدكتورة عايدة علام:

1 - اشكالية التباين بين طبيعة السينوغراف في ضوء العلاقة مع المخرج. 

2 - اشكالية العلاقة بين صياغة المنظر الاستاتيكي والعرض الديناميكي الذي يقوده المخرج.

3 - اشكالية العلاقة بين مسؤولية صياغة الصورة المرئية التي يصممها السينوغراف وبين العرض المسرحي كصورة مدعومة بالكلمة يصنعها المخرج.

اما التحديات فكانت العرض المسرحي والتطورات التكنولوجية، واختزال الزمن الكرنولوجي وتأثيره على الزمن الدرامي والسيكولوجي، عروض القاعات والفضاء المفتوح، عروض المهرجانات المسرحية. في دراسة الدكتور فاضل الجاف أكد على العلاقة الابداعية بين المخرج والسينوغراف من خلال انطلاقه من رؤية المخرج الاسترالي «بيتر كوك» الذي يقول إن السينوغرافيا هي المعجم البصري لصناعة المسرح، معرجاً على دور التشكيلي الايطالي دافنشي في تطويره للتقنيات المسرحية، سيما وأنه صمم مجموعة من دور الاوبرا والماكنات المسرحية بعد أن أدخل القباب في تمثلات الكنيسة. ثم يرتكز بحثه على المصمم التشيكي جوزيف «سفابودا»، الذي اخترع المصباح السحري والستائر المتعددة ونجاحه في جعل الضوء وسيلة مادية ملموسة بنحت قصدي تجسيدي باستخدام العاكسات «البروجيكشن»، ونجاحه أيضا في خلق تشكيلات مسرحية على شكل مونتاج مؤلف من الممثلين والصور المنبعثة من العاكسة، «السايكو بلاستيك» المفهوم الذي يعتمد التقنيات العلمية الحديثة في تجسيد الترابط العضوي بين الابعاد الثلاثة للفضاء المسرحي وعلاقتها بالحالة النفسية والشعورية والنظارة في الوقت نفسه التي تجعل من السينوغراف يلائم هذه العناصر بوحدة مجتمعة في بعد رابع يسميه الزمن بما أن الحركة على المسرح تتطلب فضاء وزمنا . 

إن منجزات «سفابودا» في مجال استخدام التقنيات الحديثة، وفي حيثية ربط الفضاء الدرامي والزمن الدرامي والايقاع الدرامي والضوء الدرامي، كانت أهم انجازات النصف الثاني من القرن العشرين.  في حين أن مايرهولد يشدد على مهمة الممثل في علاقته العضوية بالسينوغرافيا في أن يستوعب التركيب الجمالي للسينوغرافيا والميزانسين ويشعر به بكل جسده.  وفي خلاصة دراسته يشير الجاف إلى أن السينوغراف احتل دوراً بارزاً في عروض ما بعد الحداثة، وذلك لأن أغلب مخرجي ما بعد الحداثة هم مصممون سينوغرافيون، مما يدل أن تصوراتهم الإبداعية كمخرجين لا يمكن أن تنفصل عن دورهم كمصممي للسينوغرافيا. 

ومع العنوان (آليات تشكيل الخطاب بين اتجاهات الإخراج والقراءة السينوغرافية) بدأ تنقيب خالد رسلان في عوالم الفضاء البصري بمحاولة لفك الاشتباك والخلط بين الاخراج والسينوغرافيا، كمنهج له فلسفة في تكوين العرض المسرحي يستخدمه المخرج وصولاً لتحقيق اسلوبه الخاص به والاتجاه الذي يتبعه واللذين بدورهما يعكسان طريقة التعبير التي يتعامل معها الفنان في مادته الفنية لتحقيق الإبداع المطلوب، وهو البصمة الشخصية التي يضعها الفنان على عمله فتلك الطريقة في التفكير تجعلنا نضع أيدينا على الفهم الصحيح للسينوغرافيا كوظيفة لتحديد سلطتها في الابداع المسرحي من دون النظر لفلسفتها أو جوهرها الحقيقي في كونها خطابا يتشكل حسب خريطة التعامل مع العلاقات التي تتم صياغتها بين عناصر العرض وتشكل الفضاء المسرحي.  

ومن هذا المنطلق يصبح مفهوم السينوغرافيا موجود داخل إطار المنظر المسرحي من قطع ديكور ثابته أو معلقة، أو طائرة في فضاء المسرح، وحتى جسد الممثل وحركاته والذي يرتديه والإضاءة الساقطة عليه وعلى أجزاء الديكور الأخرى، لكن مع مراعاة أن كل عنصر من العناصر لا يعمل منفردا وإنما يتم تناوله على وفق ما يشكله من الجمل البصرية مع العناصر الأخرى فتصبح السينوغرافيا عملية تشكيل بصري صوتي لمساحة الأداء، والتي يشارك المتلقي في تشكيلها بتفاؤله وخياله. 

وبناء على ما سبق، يظهر لنا سؤال غاية في الأهمية، وهو بما أن عناصر السينوغرافيا هي نتائج مجموعة الخبرات التقنية المشكلة للفضاء، هل نستطيع أن نحصل على سينوغرافيا في الأمور التقنية فقط؟  إذا كانت الإجابة نعم. فما الذي يمكن أن يقوم به المخرج في مواجهة التقنيات التي في كثير منها لا يكون على دراية علمية بها، ويكتفي بتأثيرها في المشهد، دائما يضعنا أمام اشكالية جاءت بسبب الملحوظ الذي شهده القرن العشرين، وجعل من الصورة وصناعتها قد أصبحت أمرا مركزيا في العرض المسرحي.

وقد يتساءل في دراسته، هل من يمتلك المعرفة التقنية مؤهل في أن يحتل مكانه المخرج في المسرح المعاصر؟

من الممكن أن تكون الإجابة استنادا إلى سببين، الأول/ تطور العناصر التقنية ساعد كثيراً وخلص العرض من سطوة المؤلف وسيطرته على المرئيات المسرحية، أما الثاني. إننا عندما نتتبع مسيرة العديد من التشكيليين نجدهم أقدموا على مهنة الإخراج، (گولدن گريج. ادولف ابيا. ماكس راينهارت. كانتور) وكانت تجاربهم مميزة في تاريخ المسرح، لكن رغم ذلك بدا واضحا لنا أن الإجابة ممكن أن تقودنا إلى فقد جوهره بالمسرح، والفعل الإنساني يعتمد على الخداع البصري ليستخدمه الساحر في أمور مهمة، ويتحول المسرحيين هنا إلى وهم كثير للمتعة، لهذا وجدنا ضرورة الحرفية والمعرفية التي وضعت فيها التقنيات الحديثة المشكلة لمفهوم السينوغرافيا في المسرح المعاصر عبر تشكيل اقطاب الواقع الجمالي في فضاء المسرح.