الفلسفة في زمن المشاعر البلاستيكيَّة

ثقافة 2024/02/22
...

  د. قاسم جمعة 

*أبطالنا صاروا مفترضين يناغون تعطشنا للاستهلاك البصري وأغاني الصباح أصبحت صامتة.. ولم نعد نطالع صحف اليوم والجرائد، التي كان يسميها هيجل في عصره، صلاة الإنسان الحديث. فلقد أمست ميولنا تهوى الفراغ والتسكع في زمن الخواء. لا أريد أن أكون محبطاً وكئيباً، فكل ما نريد، أن يكون للعقل دوره وللقلب دوره.. وتتعدد الأدوار في زمن، صار كل شيء يسير على ما يرام كما يصف ماركيوز في أحد نصوصه متهكما وناقدا لعصره.. فهل كل شيء يسير على ما يرام؟ 

وهل يمكن أن يكون للفلسفة دورٌ في حياتنا؟

ونحن نصطاد الحب في زمن الكره. وآخرُ نشيد تلوناه حزناً للتسامح تكرر لحنه، في زمن القتل الرخيص.. فالأولاد تشردهم صيحات الأمهات، لأنهن فقدن الحنان، والآباء لم يعد أركان البيت الذي بنوه يأويهم، فمسكنهم صار عنكبوتيا.

والأم التي كتب لها الإله الجنة، سكنت في انتظار من يهل عليها بتحية من بعيد. والصديق في زمن السيلكون صار، هو ذاك الذي يختفي أو يتوارى خلف جهازه الذكي، يذكُرك بتحية صباحية، لا تمل من قول كل جمعة مباركة، كلمة جاهزة، كتبتها أيد مجهولة قبل هبوط آدم من فردوسه.. والأخ لا ينسى شيئاً، سوى أنه كان يوما أخاً لك. والزوجة تتربص وبكل ثانية تزرع النكد في أرضها. 

لقد بانت تضاريس جسدنا، والذي صار قطعة من سيلكون ممزوج بمادة صمغية، وأخذ يتراقص بمهجع المرئي. وكل ما يلتحق به، أمسى تكراراً لهرمون التلصص، المركب من حب الظهور والتعري والمشهدية المفزعة.

فكيف نواجه أبطال العصر الجديد الممزوجة وجوههم بالتفاهة وإعجاب اللايكات المربحة. ونحن لا ننفك نكرر على مسامع الدنيا، أن الفلسفة، هي سيدة لا ينبغي، أن ترتدي مخمل النعومة الإلكترونية؟ 

وكيف نقول إن الفلسفة تنعش ذاكرة اليوم المعاش، بالنقد والرفض، بعدما مات كل رفض فينا، كان ذات يوم مسكون تحت مسامات الجلد، والذي خاف عدم البوح بأسراره إلى عرافات العصر الجديد. فكل ما يخصك، صار يشغل بال الناس المبثوثين في صفحتك التي صنعها الافتراض الموحش. فلم تعد الذات ذاتاً والحق حقاً.

والآخر لم يعد جحيماً كما كتب سارتر ذات يوم. بل صار عدم إندماجك بالقطيع ،وزهوك النرجسي بعوالمه. وحبك وصدقك وعقيدتك وما تحمله من أوراق يثبت للأبد أن الآخر هو من يملك حق الوجود، الذي منحته لك دساتير الحق الطبيعي.

 فلا تُشِح برأسك، ولا تلتفت أو تسمع نداء الروح المتكلسة على طريق اليأس ،فالأمل ينهل منك .فكن أنت وهذا يكفي.

*أسرت العرافة ذات يوم لأمي، أن واحدا من أولادك سيكون له شأن عظيم، ربما كانت تقصدني، لأني عرفت شيئاً من الفلسفة، وقرأت كراساً ممزقاً لأحد حراس، مخبأ التعاويذ، والذي كتبه له شحاذ يوناني، كان يسير خلف ديوجين، لكن ما فات العرافة أن لعنة التفلسف سترافقني إلى حيث أكون.

فلم لا أسير خلف الشعارات التثويرية، وأكتب عن حقي المسلوب، وأرفض وأندد وأكشف وأحلل وأركب المتشظي ،عليَ أن أجد ما يضمن صدق ما تعلمته من الفلسفة وفنونها. ولم لا نشير ونحدد ونزيح ونواجه بدلاً من التواري والغموض والقبول؟ 

صرح ديكارت أن الفلسفة بنت الفراغ والترف والعيش الرغيد، فكيف يكون للفلسفة شأن في مدينتي، وأتباعنا يشجعون نجوم العصر البلاستيكي، في الرياضة والفن وحتى الثقافة. ويتراكضون وراء من يملك حق الاستثناء الذي فلسف أمره النازي كارل شميدت. 

وكيف نحلم بالمدينة، كما أراد افلاطون وكامبنلا وتوماس مور والفارابي، أن نحلم بها، وأسوارها تلاشت وقاطنوها يحملون في جيوبهم، كارد للانتماء يشير بضوء مغروس فيه حسب اللون، فإنْ، كنت منتمياً يصير اللون أخضر للمرور، وإن كان أحمرَ فأنت مرفوض ولا يحق لك العيش ولا الحلم بما تريد.

فهل ترغب بالعيش فعلا وفقا لما تريده الفلسفة وأفكارها؟ أم انك تتلو التعاويذ والصلاة المسطحة للممسوسين بعطر الجنون بعوالم الاتصال الرقمي؟  

بعبارة دقيقة هل بمقدورنا مواجهة التقنية المرعبة بمقولات الفلسفة ونمس جوهرها النوراني المقدس، بالنزول والاستماع الى صرخات الوجع وأنين الحاجة وأسى الفقر وألم الفاقة وغياب الحب وسيادة الكره والغباء والحقد والتعصب على مسرح حياة اللحظات المعاشة .

وكيف تواجه الفلسفة سيل الهزائم الموجع، بانزوائها  في أقصى نصوص أفلاطون وحكايا ديموقريطس والعقل المدبر لنظرية الفيض والأفلاك العلوية ومنطق العقل الذي رسمه أرسطو وطلابه، وتتناسى منطق المصلحة والخوف والحياة؟

 فهل يكون من واجبنا السؤال عن حق الفلسفة في الإدلاء برأيها، بعدما انشغلت بداخلها وهربت من خارجها؟ 

 ألم يكن ماركس ورفيقه أنجلز ممن انشغلا بحمل فأس التحطيم لمقولات الفلسفة الجدباء بعدما حل هيجل وفلسفته ضيفا ثقيلا عليها؟ ولماذا يمتدح هو السوفسطائية ويعدها مدخل التنوير الغربي في الوقت الذي أخذ يسير بالعقل إلى نهايته؟ 

ليس هناك من معيار للحق سوى الألم وللحب سوى الاشتياق والتعصب سوى الغباء والعلم سوى وأد الجهل والدين سوى الإيمان والعقل سوى النقد. والحقيقة صارت بيد من يملك الرصاص. وأقلام الدفاع عن الحق كفت عن جولات العدالة وارتهنت لسطوة المال

وإغرائه.

فكيف ندفع بالفلسفة إلى مخدعها الأخير لتزيل عار السكوت عما يحصل، فهل كل شيء يسير على ما يرام حتى نحلم بأن نكون متفلسفة وطموحين بعدل قادم على يد بطل من واقعنا بعدما أصبحت قصة البطل تُحاك بمغزل أسطوري يحارب، كدون كيشوت، ناطحات الشر والفساد والغش والحيف والظلام.