التَّاريخ بين «نيتشه» و«ابن خلدون»

ثقافة 2024/02/25
...

 حسين العبدالله الشمري

أرى أنَّ مقولة “أنا لستُ إنساناً، بل عبوة ديناميت” تنطبق على ابن خلدون أَيضًا، إذ يُقَدم هذا الأَخير سبقاً غير مُتوقع في فهم التَّاريخ، فهماً يكاد يكون “ما بعد حداثيّ”، إذ يرى أن التاريخ فنٌ من الفنون وهو على  ظاهر وباطن، أي أنَّ هناك تاريخا ظاهرا وآخر باطنا، وهذا نصُّ ابن خلدون من مقدمته، يقول فيه: “أمّا بعد فإنّ فنّ التّاريخ من الفنون الّتي تتداوله الأمم والأجيال وتشدّ إليه الرّكائب والرّحال، وتسمو إلى معرفته السّوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال، وتتساوى في فهمه العلماء والجهّال، إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيّام والدّول، والسّوابق من القرون الأول، تنمو فيها الأقوال، وتضرب فيها الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصّها الاحتفال، وتؤدّي لنا شأن الخليقة كيف تقلّبت بها الأحوال، واتّسع للدّول فيها النّطاق والمجال، وعمّروا الأرض حتّى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزّوال، وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيّات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعدّ في علومها وخليق”. (مقدمة ابن خلدون، ص6).  
وأود هنا أن أضع اليد على مقولة (الظَّاهر) بوصفها المعرفة الموضوعية للتاريخ، ومجال الحقيقة التي تمنح التاريخ بعده الميتافيزيقي، ومقولة (الباطن) التي تحمل بُعد النظر، وسؤال كيف حدثت الوقائع، وما وراء هذه الوقائع، أي وضع التاريخ في محكمة السؤال، التاريخ بوصفه تأمُّلاً في ذاته، ممَّا يمنح هذه المعرفة بعدها الجينالوجي.
أمَّا عند الفيلسوف فريرديك نيتشه سيَّما في كتابه “محاسن التاريخ ومساوئه” نظرةٌ مشابهة لابن خلدون إزاء التَّاريخ،  فهو يميّزُ بين  نوعين من التاريخ؛ التاريخ الأثريِّ والعادياتي، والتاريخ النقدي، فالأثريُّ  العادياتي عنده تلك المعرفة الماضويَّة التي تُقدس التاريخ وتقدّره، وهي تؤمن بإيجابيَّة التاريخ والنظر إليه نظرة إعجاب وموضوعيَّة بوصفه باب الحقيقة والعدالة وهذ وهمٌ!
إذ يترتب عليهما بُعداً ميتافيزيقيا للتاريخ، كما ويجب -بحسب نيتشه- تجاوز هذه المعرفة الموضوعيَّة إلى معرفة منظوريَّة أي تأمليَّة (أسماها ابن خلدون معرفة باطنية).
هذه المعرفة المنظورية هي التاريخ النَّقدي، إذ لا ينظر هذا الأخير  إلى الماضي باعتباره  أمراً إيجابيَّاً، بقدر ما هو أمر سلبي سيَّما إذا أسيء استعمال التاريخ الأثري.
لذا يتوجب  تأمله وتفكيكه وإعادة النظر في مسلماته ونقضها.  يتفقُ نيتشه مع ابن خلدون في أنَّ التاريخ له جانب موضوعاتي، وآخر منظوراتي، لكل منهما سماته، ولكنّ نيتشه تقدم خطوة إلى الأمام  بوضع المطرقة على التاريخ، وفقاً لرؤيةٍ جينالوجيّة، ولم يكن التاريخ عنده محط إعجاب، بل على العكس تماما كان حازماً في التعامل معه، كما وتبقى مفاهيم ابن خلدون جريئة في زمانه في طرح فهم خاص للتاريخ في ظل بيئة غير مؤمنة بالتأمل المعرفي، وغارقة في  ظلمات الميتافيزيقا.